Culture Magazine Thursday  12/04/2012 G Issue 369
فضاءات
الخميس 20 ,جمادى الاولى 1433   العدد  369
 
دعوة إلى.. ربيع آخر وثورة أخرى - 2 -
ريمة الخميس

 

الإنسان.. والآلة

منذ ما يقرب من ربع قرن أقدم فنان أمريكي كبير وشهير على صناعة مجسم هائل بحجم منزل من طابق واحد، وغطاه تماماً بالقماش فلا أحد يعرف ما يكون حتى لحظة كشفه للجمهور.

وفي يوم العرض أزاح الفنان عن مجسمه الغطاء فإذا هو آلة عملاقة شديدة التعقيد.

ضغط على زر فدارت الآلة لثانيتين بعدهما بدأت في تدمير نفسها بنفسها.

المجسم ربما استغرق من صاحبه شهوراً أو عدة سنين حتى يكتمل، والعمر الذي حدده الفنان لبقائه هو ثانيتان، فهل كانت الرسالة التي يوجهها الفنان تستحق هذا الثمن الفادح؟ في ذات الفترة كانت الصحافة العربية تكرر بين وقت وآخر استطلاعات الرأي والتحقيقات حول وضع «الكتاب» والكتابة والقراءة، مع تساؤلات من مثل: هل انتهى زمن الكتابة باليد لحساب الحاسبات؟، هل قلّ اهتمام الناس بالقراءة لحساب مشاهدة التليفزيون، هل ماتت صناعة السينما لحساب الشاشة الفضية، وسقطت خشبة المسرح وكفّ الناس عن الاهتمام بالرواية لحساب تجسيدها درامياً عبر القنوات، بل امتدت التساؤلات إلى مستقبل الصحافة الورقية ودورها في نشر الوعي وإلى الإعلان فيها وغير ذلك، ولعل ما وصلت إليه نتائج تلك الاستطلاعات آنذاك قد تغيّر الآن وزاد قدر الإحباط فيها بعد انتشار مواقع التواصل الاجتماعي على النت والمنتديات والمواقع الإخبارية الإلكترونية الملاحقة للأخبار لحظة بلحظة.

طبيعي في ظل هذا كله أن يُثار في منطقتنا العربية وخارجها بدرجات متفاوتة سؤال كبير:

هل تراجعت العلوم الإنسانية (بما فيها وضمنها الفن والأدب) لحساب العلوم البحتة والتقنيات، خصوصاً في مجال ابتكار البرمجيات وتطوير الحاسبات وألعاب الإبهار في أجهزة الاتصال ووسائل نقل المعلومات وأدوات الكهرباء المنزلية وأجهزة القياس تحت الأرض وكاميرات التصوير عن بُعد وأدوات ال FM وصرعات الشكل والسرعة في السيارات من ناحية، إضافة إلى تطوير أدوات الحروب والتجسس والأقمار والسفر إلى الفضاء من ناحية أخرى، إضافة أيضاً إلى أجهزة الفحص والتحليل والقياس المعملية من ناحية ثالثة، إضافة إلى كل ما أحاط بذلك من تنويعات وتوابع طالت حتى لعب الأطفال.

بل قد يكون من الطبيعي أيضاً أن يطرح السؤال الأكبر: هل هذا العصر هو عصر احتضار الإنسان وتخليه عن كثير من مواقعه للآلة؟.. أحدهم راودته فكرة مجنونة، فقد أدخل إلى الكومبيوتر بيانات محددة عن الموضوع وطريقة المعالجة وخلافه فأخرج له الحاسب الآلي قصيدة عصماء، قدّمها إلى النقاد على أنها قصيدة لشاعر مجهول فأفاضوا في التحليل والإطراء وتسابقوا في إظهار مهارات الاكتشاف للرؤى والدلالة والمعنى، واضطر صاحب الفكرة إلى المكاشفة بالحقيقة فيما قد يعني: «لم نعد بحاجة إلى الشعراء فلدينا الآلة التي تنتج شعراً هو الأروع والأهم».. أي كارثة؟! لا بأس، «الحياة تتطور وتتغير وعلينا أن نلاحقها».

هل يكفي هذا ذريعة لتخلي الإنسان عن إنسانيته في سبيل اللهاث خلف «ألعاب» التكنولوجيا؟ وهل يشبع شيئاً في ضمير ووجدان الذين تخلوا عن دور إنساني تاريخي، سيرصده المؤرخون ولو بعد ألف عام وهم يتحدثون عن عصور الازدهار وعصور الاضمحلال؟ ولماذا لا يفكر أحدهم في أن يقلب الصياغة لتكون: «الحياة لا تجرني خلفها، وإنما أنا الذي يرشدها ويقودها إلى الأفضل والأمثل»؟ تراودني الآن بعض الأسئلة الصغيرة: من هو الذي ابتكر جهاز الجوال؟ من هو أول من ابتكر الدراجة؟ من هو صاحب فكرة تحويل الصورة إلى نقاط ال «DIGITAL» ومن ثم نقلها عبر النت أو التلفاز.. إلخ، وهي أسئلة قد تسعفنا مؤشرات البحث على النت في العثور على إجابات لها لكن ما أعنيه أنها كلها أسماء ليست في الذاكرة أو الوجدان، وما أريد أن أصل إليه هو أن الآلة في آخر أشكالها لا فضل لصاحبها إلا في إضافة شيء بسيط إلى شكل سابق، أي أن آلة اليوم تدمر نفسها في اليوم التالي بإضافة أحدهم لخاصية جديدة فيها، ومثالاً ما إن ظهر جهاز الجوال أول مرة، بحجم أجهزة اللا سلكي في أيدي الشرطة، وبوزن الكيلو ونصف الكيلو، حتى أغرقتنا الصين بكل الأشكال، بعد أن اختزلته في حجم ولاعة السجائر وأضافت إليه الكاميرا وجهاز التسجيل والراديو والتليفزيون ودليل السير وكشاف الإضاءة وغير ذلك، وربما غداً تظهر أجهزة في شكل خاتم في الأصبع وقرط في الأذن هو سماعة البلوتوث (إن لم يكن قد ظهر بالفعل).

مقابل الأسئلة الصغيرة مجهولة الإجابة قد تراودني أسئلة كبيرة تسبقها الإجابات من مثل من هو الشاعر الذي أراد من زمنه ما لا يبلغه من نفسه الزمن، والذي نظر الأعمى إلى شعره وأسمعت كلماته من به صمم؟ أو لمن كانت الألياذة أو الأوديسا أو الشاهنامة أو بيجماليون أو هاملت، فلا أحد لا يعرف المتنبي أو هوميروس أو الفردوسي أو برناردشو أو شكسبير، بعضهم كان يعيش منذ ثلاثة آلاف سنة كهوميروس ولا يزال، والمتنبي نال من زماننا نحن ما لم ينله من نفسه زمنه هو.

لم أقصد أن أعقد مقارنة، وإنما أردت فقط أن أقول إن الآلة في شكلها الأخير إضافة بسيطة إلى سلسلة من التراكمات لآلاف الناس، كل أضاف شيئاً وغيّبه التالي، لكن القصيدة الواحدة هي عذاب روح واحدة أو بهجتها، والمُعطى للعقل والقلب والضمير لشخص مر بلحظة إدراك لوجوده الإنساني، يموت ولا تموت صرخته، ولعل هذا هو المعنى، والرسالة الفادحة الثمن، للفنان الذي صنع مجسمه آلة تنتحر في ثانية...

هذا كله لا يتعلق بنا، بل بمجتمع آخر هو الذي ابتكر الآلة وأضاف إليها وعرضها بمختلف أشكالها في أسواق المال والاقتصاد، وهو مدرك تماماً أنها لا تساوي أكثر من حطامها، أما ما يتعلق بنا فموقعه خارج هذا السياق بكثير، فنحن حتى اللحظة لم نخرج من كوننا مستهلكين للآلة، أي مجرد أدوات تدميرها، رغم أننا في غمرة اللهو والتكسير والتدمير للألعاب أسقطنا همومنا وانشغالاتنا، وتخلينا عن دور تاريخي في مدّ زهو وجودنا الإنساني المجيد في عصور ازدهار الثقافة العربية، فلن تجد الأجيال التالية ما نورِّثه لها إلا حطام الأدوات، أو لعلني في حالة من اليأس أو الإحباط، ولهذا أرجو أن تكون معاودتي المرة القادمة أكثر إشراقاً.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة