Culture Magazine Thursday  12/04/2012 G Issue 369
فضاءات
الخميس 20 ,جمادى الاولى 1433   العدد  369
 
د. عبدالوهاب المسيري بين دعاوى الأسلمة وأطروحات العلمنة
دراسة في التناقض المعرفي في المشروع الفكري للمسيري
عصام حجازي

 

يطرح هذا المقال فكرة التحديد الأيديولوجي والحضاري لفكر الدكتور عبدالوهاب المسيري ويتناول بالتحليل الوصف السائد للعالم الجليل بأنه كاتب إسلامي (كما هو شائع) وأنه من المعادين للفلسفة العلمانية بكل أشكالها النمطية في الغرب أو في الشرق، كما يسعى المقال إلى تحليل مدى سلامة تلك المقولة استناداً إلى أفكار المسيري وأطروحاته التي ناقشها في كتاباته، فهل كان المسيري (من خلال كتاباته وأبحاثه) كاتباً إسلاميا أم كاتباً علمانياً؟ التناقض المعرفي في طرح الدكتور المسيري لمفهوم العلمانية واضح في كتاباته فمن ناحية نجد المسيري يقسم العلمانية إلى شقين هما العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، وفي إطار تحليلة لبنية التفكير العلماني الجزئي، يرى المسيري أنه لا تعارض تماماً بينه وبين مفهوم العلمانية الجزئية التي يراها تعاملاً طبيعياً مع الكون ولا تصطدم مع وجود الإنسان وإيمانه بفكرة التجاوز وفصله لمفهوم الدين عن الدولة، يعلق المسيري: يتحدث بعض أصحاب هذا التعريف من (أنصار العلمانية الجزئية) عن أنه لا تعارض في واقع الأمر بين العلمانية والتدين وأن بإمكانهما التعايش معاً.

وهو أمر ممكن بالفعل إذا كان المعنى هو مجرد تمايز بعض جوانب المجال السياسي والاقتصادي عن المجال الديني.

وأعتقد أن كثيراً ممن يتصورون أنهم أعداء للعلمانية سيقبلون هذا الفصل أو التمايز، إذا ما تأكدوا أن العلمانية (فصل الدين عن الدولة) مسألة تنطبق على الآليات والإجراءات الفنية وحسب ولا تنطبق بأية حال على القيمة الحاكمة والمرجعية النهائية للمجتمع والدولة.

أي أن من الممكن أن تقبلوا فصل بعض جوانب المجال السياسي والاقتصادي بل بعض جوانب السلوك الإنساني- عن الدين طالما أن المرجعية النهائية هي مرجعية متجاوزة للدنيا وللرؤية النفعية النسبية المادية. (العلمانية الجزئية والشاملة- المجلد الأول- ص 18-19) ثم يتابع المسيري بحثه الاستكشافي لماهية العلمانية وآلياتها فيقول إن العلمانية الجزئية «تلتزم الصمت بخصوص القضايا النهائية» (العلمانية الجزئية والشاملة- المجلد الأول- ص17)، وهنا تكمن الرؤية المحورية للفرد والمجتمع عند المسيري، كما تبرز بشدة نقاط التنافر في أطروحة الباحث الكبير، فما هي مرجعية المجتمع عند الاحتكام في القضايا الكبري وما هي المعايير التي يستند إليها الفرد في المواقف الجدلية والخلافية؟ فهل سيحتكم إلى حكم الوحي أم يركن إلى عمال العقل وما الحل إذا اصطدم رأي العقل بقول الوحي؟ ولمن تكون المرجعية؟ وعندما يؤكد الدكتور المسيري على أنه لا تعارض ولا تنافر «في واقع الأمر بين العلمانية والتدين» ما دامت المرجعية النهائية هي «مرجعية متجاوزة للدنيا وللرؤية النفعية النسبية المادية» فهنا نستطيع أن نقرأ دلالتين: أولاهما أن الدكتور المسيري يختزل كل الحلول لمشاكل العلمانية في مرجعية التجاوز وحسب وثانيهما أنه يساوي بين كل أنواع التجاوز سواء كان هذا التجاوز ميتافيزيقياً أو دينياً أو غير ذلك. فما يمكن أن يعد حلاً إسلامياً مرتكزا على أوامر الوحي وتشريعاته يتساوى عند الدكتور المسيري، مع أي مرجعية أخرى قد تأتي برأي مخالف بل ومناقض ما دامت تؤمن بالتجاوز.

أما ما يرفضه الدكتور المسيري فهو العلمانية الشاملة التي تسعى إلى رفض وفصل كل القيم عن كل جوانب الحياة وتدعو إلى العدمية والتمركز حول الذات وهدم المركز واختزال الإنسان في قالب واحد مادي نماذجي أحادي الجانب لا ينظر للإنسان إلا باعتباره مادة استعمالية وحالة وظيفية، فالإنسان من المنظور العلماني الشامل هو مجموعة من الدوافع المادية والفسيولوجية والبيولوجية التي ينطبق عليها قانون الطبيعة، وإذا أردنا أن نفهم هذا الإنسان فلا بد أن نعيده إلى قوانين الطبيعة التي صنع منها ومن هنا يبرز جلياً مفهوم الدكتور المسيري عن العلمانية التي يرتضيها فهي العلمانية الجزئية التي كما يقول الدكتور المسيري «تلتزم الصمت عند الإجابة على سؤال المرجعية الأولى للمجتمع» فهو هنا لا يدعو إلى مرجعية إسلامية بالضرورة ولا يدعو إلى تبني الدين الإسلامي كإطار حضاري يسعى إلى طرح حلول وإيجاد مركز ومرجعية تصلح لبناء الإنسان وتعيد التصالح بين الإنسان وذاته من ناحية والإنسان وعالمه من ناحية أخرى من خلال التوافق بين الإنسان وربه وتطبيق الإنسان لتعاليم الوحي فهذ هو ما يسعى إليه الفكر الإسلامي (reference) والكاتب الإسلامي.

وهذا ما تغيب رؤاه في طرح الدكتور المسيري للإطار المعرفي الذي ينبغي أن يتبناه المجتمع كما يغيب أيضاً في طرح الباحث الكبير عند نقده للسياق الحضاري الغربي بدءًا من عصر الاستنارة حتى عصر ما بعد الحداثة ومما يؤكد ما لا حظناه من وجود تناقض معرفي في فكر الدكتور المسيري في طرحه للمفهوم العلماني الجزئي والشامل هو ما قاله الدكتور المسيري في كتابه «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة» عندما أوضح: والفرق بين ما نسميه «العلمانية الجزئية» وما نسميه «العلمانية الشاملة» هو في واقع الأمر الفرق بين مراحل تاريخية لنموذج واحد. فالعلمانية ليست نموذجا ثابتا، وإنما ظاهرة لها تاريخ، وتظهر من خلال حلقات متتابعة.

ولذا فبدلاً من أن نتحدث عن نموذج العلمانية (ومصطلح «نموذج» يدل على قدر كبير من الثبات) يجدر بنا أن نتحدث عن متتالية نماذجية، تتحقق عبر الزمان وفي المكان.

ويمكننا القول إنه في المراحل الأولى من هذه المتتالية تسود العلمانية بالجزئية، حينما يكون مجالها مقصوراً على المجالين الاقتصادي والسياسي..

ومع اتساع مجال عمليات العلمنة وضمور المطلقات واختفائها تظهر العلمانية الشاملة في مرحلتيها الصلبة والسائلة. (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، المجلد الأول، صـ222) (التأكيد من عندي) وفي كتابه «الحداثة وما بعد الحداثة» نقل د. المسيري عن مؤرخي الحضارة الغربية تصنيف عصر الاستنارة إلى مرحلتين هما الاستنارة المضيئه illuminated enlightenment والاستنارة المظلمة dark enlightenment. ويؤكد الدكتور المسيري على أن أفكار الاستنارة المضيئة، التي لم يكن فيها العقل الغربي قد بدأ يعاني من أزماته ولا أمراضه الشائعة اليوم هي التي أدت إلى إنتاج أفكار الاستنارة المظلمة التي تهدد وجود الإنسان بل الحضارة الغربية في مجملها وفي نفس الوقت يرى أن ينبغي أن نعيش في إطاره هي أفكار الاستنارة المضيئة، فمن ناحية ينادي الدكتور المسيري بتطبيق مبادئ الاستنارة المضيئة ثم يعود ويقول إن الاستنارة المضيئة هي التي أدت إلى الاستنارة المظلمة التي هي من أفكار العلمانية الشاملة التي يرفضها العلامة الكبير.

يناقش المسيري: وإذا كانت العقلانية المادية أثمرت الاستنارة المضيئة، فهذه التساؤلات أدت إلى ظهور (الاستنارة المظلمة).

إن الاستنارة المظلمة ليست أمراً مضافاً للاستنارة المضيئة ولا مقحماً عليها، وإنما هي متضمنة تماماً في المتتالية الاستنارية المضيئة وأن منطق الاستنارة المضيئة يؤدي إلى الاستنارة المظلمة (تماماً مثلما تؤدي المادية القديمة الصلبة إلى المادية الجديدة السائلة والعقلانية المادية إلى اللا عقلانية المادية. ( الحداثة وما بعد الحداثة، صـ22-23) وفي تصوري أن هذا التناقض المعرفي هو تناقض «طبيعي» أو متوقع لأن الدكتور المسيري هو كاتب علماني وليس مفكراً إسلامياً، فالدكتور المسيري هو مفكر مسلم وليس إسلامياً والفرق كبير بين كلا المفهومين فالكاتب الإسلامي هو من يتبنى الإسلام أطروحة ومنهجاً ومرجعية وقد يطلق هذا اللقب مثلاً على سيد قطب أو د. محمد عمارة أو الشيخ الغزالي فهؤلاء المثقفون الكبار يتبنون الإسلام والنص القرآني والحديث النبوي كإطار مرجعي حضاري يساهم في طرح حلول لأزمة الإنسانية ويضع حداً لمعاناة الإنسان المعاصر الذي ضللته المادة وغرته منجزاته العلمية والتراكم المعرفي الكبير «فحبطت أعمالهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً» وعلى عكس هؤلاء المفكرين الكبار، لا يطرح المسيري حلاً إسلامياً كرؤية مفاهيمية لأزمة الإنسان المعاصر وإنما يقول علينا أن نرجع إلى ما كانت عليه العلمانية الجزئية في مرحلة المادية الصلبة وقد نرى ما يعزز غياب الطرح الإسلامي في أعمال المسيري هو قلة الاستشهاد بالأحاديث النبوية والنصوص القرآنية في أعمال المسيري فالكتاب الإسلاميين تمتلئ كتبهم وأبحاثهم بالعشرات من الاستشهادات المستمدة من الكتاب والسنة والتراث الإسلامي، ويتبنون الحلول المستلهمة من القرآن والأثر النبوي كإطار لطرح مفاهيمهم وتمتلئ صفحات كتبهم بالتفسيرات والآيات التي تتناول قضايا الإيمان والغيب والآخرة والعمل، بينما تغيب كل تلك الاقتباسات في أبحاث وأعمال الدكتور المسيري وما يبقى عند الدكتور المسيري هو ثقافة الفطرة التي يطرح من خلالها مفاهيم القيم والالتزام والعدالة فالدكتور المسيري هو كاتب مسلم يؤمن بالإسلام ويؤمن بفطرة المسلم، ولكنه لا يتبنى الإسلام كمرجعية أو إطار حضاري يسعى لإخراج الإنسان المعاصرمن أزماته ومما يؤكد ما سلف ما كتبه الدكتور المسيري نفسه في كتابه «دراسات معرفية في الحداثة الغربية» عندما تعرض لتحليل بعض قيم الثقافة الشعبية في مصر وجاء لعرض بعض النقد لفيلم «خلي بالك من زوزو» (وهو فيلم علماني بامتياز) ، نجد د. المسيري يحلل شخصية البطلة (الراقصة) ويتحدث عنها بإعجاب شديد وبأن رقص البطلة هو نوع من الرقص الذي لا يثير الشهوة (لا أعرف كيف)، يناقش الدكتور المسيري شخصية البطلة (الراقصة) بقوله: يستخدم فيلم «خلي بالك من زوزو» الرقص البلدي ولكن بطريقة جديدة كل الجدة، فالرقص هنا ليس مجرد رقص بل هو رمز لعالم بأكمله آخذ في الاندثار.

وزوزو تنتمي إلى هذا العالم المندثر، ولكنها تحاول جاهدة الخروج منه، فهي راقصة شرقية و(عالمة) ولكنها طالبة متحضرة ومثقفة.

فالرقص هنا ليس مجرد وسيلة لابتزاز الجمهور بل هو أداة فنية لها مضمون وسياق ونحن مطالبون بأن ننظر إلى الرقص في هذا الفيلم نظرة جديدة ولذلك فحتى ترقص زوزو «العالمة» بطريقة تقليدية فإن استجابتنا لا تكون تلك الاستجابة الغريزية التقليدية.

وقد عالج الفيلم نفسه هذا الجانب في ذلك المشهد الذي نرى فيه ذلك السكير الكريه الذي يحتسي جرعات الويسكي ثم يهاجم زوزو ويمسك بها بطريقة فظة بهيمية، وينتهي المنظر بزوزو تحتج على امتهان إنسانيتها.

فنحن إن استجبنا للرقص بالطريقة التقليدية، فإننا نجد أنفسنا في نفس المعسكر مع هذا الحيوان الكريه، ولكن لأننا لا نحبذ مثل هذا المصير فإننا نعدل من استجابتنا وننظر إلى هذا الرقص بشيء من الاحترام.

(دراسات معرفية في الحداثة الغربية، صـ315) (التأكيد من عندي) ومما سبق يتبين لنا أن الطرح المعرفي للدكتور المسيري هو طرح غير متسق مع ذاته بمعنى أنه يطالب برؤية تتناقض مع ذاتها في آلية التحقق ولعل من الجدير بالذكر هو أن ما يؤكد موقفنا هذا هو غياب الفكر البديل في طرح المسيري بمعنى أننا قد نرى بعض الإشارات هنا أو هناك في أماكن متناثرة في كتب الدكتور المسيري لكن هذه الإشارات لا تحمل في طياتها فكراً بديلاً لما ينتقده الباحث العظيم ولعل هذا مما يعمق فكرة أن المسيري ليس كاتباً إسلامياً فحتى وإن أيد الرأي الإسلامي في مواقف عدة إلا أننا لا نجد صدى لهذا الفكر في أطروحاته ولا نجد تحليلاً أو رصداً ومتابعة دقيقة كما فعل في تحليله للفكر العلماني.

خاتمة مراجع المقال: د. عبدالوهاب المسيري.

دراسات معرفية في الحداثة الغربية، دار الشروق القاهرة، 2007.

العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (المجلد الأول).

دار الشروق.

القاهرة، 2008.

ود. فتحي التريكي.

الحداثة وما بعد الحداثة، دار الفكر، دمشق، 2008.

مصر

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة