Culture Magazine Thursday  13/09/2012 G Issue 379
فضاءات
الخميس 26 ,شوال 1433   العدد  379
 
رؤية
بين السعادة والحكمة
فالح العجمي

 

تقول الطرفة: «أتى حكيم إلى رجل فقال: هل أدلك على ثلاث إن فعلتها نلت رضا الناس؟ قال الرجل: لا. فقال الحكيم: لماذا؟ قال الرجل: بس مابي (يعني: لا أريد)! فتفشّل الحكيم ومشى».

ما المغزى من هذه الحكاية؟ وما الفكرة التي دفعت مبتكرها إلى صياغتها بهذه الطريقة؟ هل هو تعبير عن التباين بين وصفة الحكمة التي أراد الحكيم تقديمها إلى الرجل البسيط، ووصفة السعادة التي يبدو أن ذلك الرجل قد أراد الاحتفاظ بها بعيداً عن مقومات الحكمة، التي لا يرى أنه سيستفيد منها في حياته؟ كلها أسئلة تبرر محاولة تقديم تعريف بسيط لكل من السعادة والحكمة، وفهم بعض فئات المجتمع لكل منهما.

بالطبع تختلف مفاهيم كل منهما في الثقافات المختلفة، وأيضاً في الأزمنة المرتبطة بظروف مختلفة، كما تتباين تعريفاتهما لدى الأجيال المتعاقبة؛ فبعض المجتمعات تحصر السعادة في المال والجاه، وبعضها يضيف إليهما الصحة البدنية والراحة النفسية، وبعضها الآخر يركز على تحديدها في المجتمع الصغير المتمثل في الأسرة ودائرة الأصدقاء المقربين، ومدى التفاهم بين المرء وتلك الأطراف. أما الحكمة فإن كان لها كثير من الشأن في الثقافات القديمة فإنها - مثل الفلسفة - لم تعد ذات قيمة في حياة أغلب المجتمعات المعاصرة؛ بل أصبحت شبه محصورة في بعض البيئات التقليدية أو البدائية، وحتى ما كان منها ذا تاريخ عريق كالحكمة الصينية أو الهندية لم تعد لها اليد الطولى في تلك المجتمعات؛ ربما لأن الحياة أصبحت سريعة الإيقاع أكثر مما يحتمل من رزانة الحكماء وبُعد نظرهم. وهذه الفكرة الأخيرة سنتناول آثارها في نهاية المقال.

وإذا حاولنا جمع شتات ما تفهمه الثقافات المختلفة عن السعادة فإن أقرب تعريف لها ربما يكون متمثلاً في رضا الإنسان عن أوضاعه ومحيطه داخلياً وخارجياً. فهل الرجل الممثل في الطرفة أعلاه باحثاً عن السعادة عندما رد محاولة الحكيم تعليمه إرضاء الناس؛ لقناعته بإن إرضاءهم مستحيل، وأن الحكيم حالم لا يعرف واقع الناس الفعلي؟ وهل الزهاد في المال، الذين لا يزاحمون الناس على الطمع في الماديات، موقنون بسلوكهم طريق السعادة بتوازن نفسي وقناعة بأوضاعهم؛ فيتحقق لهم الرضا الذي عرّفنا به السعادة؟ وهل المتمسكون بأسر سليمة ومتماسكة وأصدقاء حقيقيين ومخلصين عارفون بأسرار الدرب الخفي للسعادة؟

في دراسة نشرتها مجلة غربية كان أغلب المستطلعة آراؤهم يشيرون إلى المشاهير بأنهم سعداء. وكأن المجلة قد توقعت مسبقاً هذه النتيجة، فعملت استطلاعاً لآراء بعض المشاهير عن مدى سعادتهم، فتبين أن قرابة 60 % منهم غير سعداء، وأن 18 % من العدد الكلي يرون السعادة غائبة عنهم، لكنها قد تأتي في يوم من الأيام.

وفي الثقافة العربية يعد الملوك أسعد الناس، ربما للأسباب الشائعة من امتلاكهم المال والجاه والسلطة وممالأة الناس لهم؛ ما يحقق لهم الرضا عن ذواتهم وبيئتهم التي يعيشون فيها، حتى أصبحت الاستعارات التي يطلقها العرب على من هو مطلق الإرادة ومرتاح في وضعه: «ملك في...». لكن هل فتش الناس في دواخلهم، وعرفوا ما يعتمل أحياناً فيها؛ ليعرفوا إن كان نومهم هانئاً، وصحتهم البدنية والنفسية مستقرة بسبب المسؤوليات والخوف من زوال أي من تلك المكتسبات؟

أما الحكمة فقد طلقتها المجتمعات المعاصرة إلى غير رجعة. وليس أدل على ذلك من سلوكهم مؤسسات ودولاً وأفراداً في طريق العبث بالبيئة، الذي يعرف من يملك أدنى حكمة أن مآله وخيم على الأرض ومن عليها. ومع ذلك لا يلتفت إلى تلك الأخطار إلا بعض العلماء في أبحاثهم، وبعض الحكماء من أصناف صاحبنا المردودة نصيحته في بداية هذا المقال.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة