Culture Magazine Thursday  13/09/2012 G Issue 379
فضاءات
الخميس 26 ,شوال 1433   العدد  379
 
أيها المثقفون:
من يهن يسهل الهوانُ عليه!
خالد بن أحمد الرفاعي

 

لن أختلف مع الذين يدينون المثقف السعوديَّ وخطابَه، ولا مع الذين يتموقفون من انقلاب كلماته على كلماته، ومن مجافاة سلوكه لرؤاه...

ولن أختلف مع الذين آذاهم انكسار باب الساحة الثقافية، وتهشّم نوافذها، حتى صارت غرفاً مباحة، لكلّ من هبّ ودبّ، وشذّ وفذّ...

ولن أختلف مع الذين اتهموا مثقفا سعوديّاً، بممارسة الأحادية والإقصاء...، ولا مع الذين يؤاخذونه على افتقاره إلى مشروع، أو على انغماسه في الركض المكشوف خلف مصالحه الشخصية...

ولن أختلف مع الذين أماتوا المثقف أو أماتوا دوره، ولا مع الذين سوّوه بمن هم دونه، ولا مع القائلين بأنه يعيش في أزمة، ولا مع القائلين بأنه الأزمة...

لن أختلف مع هؤلاء كلِّهم، فلهم الحق في أن يتموقفوا، وأن يعلنوا مواقفهم أيضاً، ولا أحسبهم عاجزين عن تحصيل معطيات من ساحتنا الثقافية، لا سيما وأطرافها تتوغل كلّ يوم خطوة أو خطوتين في مناطق الانكفاء والتشظي والشتات.

لكنني في المقابل أتساءل : لماذا يُستثنى المثقف من الأخلاقيات التي يترنم بها مجتمعنا؟ ومنها:{فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، ولماذا يتمُّ التعامل معه - في الآونة الأخيرة - على أنه مدان حتى تثبت براءته؟ ولماذا يؤخذ المثقفون جميعهم بخطأ اقترفه منسوبٌ إليهم، أو محسوبٌ عليهم ؟

لماذا يتعرض المثقف في بلادنا إلى حملة تشويه عنيفة، تقف في الشارع المقابل لتزكية الشيخ والداعية، والصفح المطلق عن أخطائهما المستمرة ؟

لقد كانت المواجهة التي تعرضت لها الساحة الثقافية - منتصف الثمانينيات - انتقائية، تستهدف رموزا من الساحة لاعتبارات محدّدة ومعلنة، ورغم علات تلك المواجهة، وضخامة خسائرها على المستويات كلِّها فإنها تعد مقبولة إذا ما قيست على ما يجري اليوم..

إنّ الساحة الثقافية اليوم تعيش مرحلة أصعب؛ كونها مستهدفة بكاملها، من ناصية رأسها إلى أخمص قدميها، حتى صار كلّ منتسب فعلي إليها عرضةً للتحريض، أو التعريض، أو المواجهة البارزة والمستترة !

لا أتحدث هنا عن ظنيات، وإنما عن شواهد...، ففي منابر بعض الجوامع، وفي كثير من البرامج التي تضيّف المشايخ الكرام، يُتهم السائرون في موكب الصحافة الورقية بممارسة الإقصاء، أو بارتهانهم إلى رأي أحادي، هو الرأي الليبرالي / التغريبي، الذي يريد إفساد الدين والمجتمع.

هذا الإطلاق يجعل كل من يكتب في الصحافة الورقية من المثقفين بين خيارين صعبين: إما أن يكون ليبرالياً/ تغريبياً/ مسكوكاً في صوت واحد، يفكر ويكتب من خلاله، وإما أن يكون كذلك أيضاً...، هما خياران متشابهان لا ثالث لهما، وعلى الكاتب أن يكون هنا أو يكون هنا أيضا...؛ إذ ليس هناك استثناء في لغة أولئك المتعجلين، يمنحه خياراً ثالثاً، وليس هناك تمحيص يخرجه من (العموم)، وليس في خطابهم مستند علمي، يمكن أن يتحاور معه...، هو كلام عابر يمضيه أناس عابرون، يجيشون به المجتمع كله على فئة كان لها فضل يوما من الأيام في فتح أبواب مغلقة، وإزالة عقبات وعقبات...

يصرّ أحد أساتذة الشريعة - في لقاء تلفزيوني - على أنّ وزارة الثقافة والإعلام مختطفة بكاملها من التيار الليبرالي، ويشير إلى أن الوزارة تنهض – من خلال أنشطتها الثقافية خاصة - بأدوار خطيرة، ضد هذا الوطن، ومقدراته، وأناسيه.

مر كلامه كما يمر الصمت عادة، بلا معقب في الآن نفسه، وبلا رقيب أو حسيب فيما يلي...، ولن أكون مبالغاً إذا قلت: إنّ كلامه قد أخذ طريقه - براحة تامة - إلى عقول صاغية، رضيت بأنْ تكونَ منقادة خلف الخالفين !

لم تتحرك وزارة الثقافة لمساءلة هذا الشيخ المتبوع، ولا للترافع ضده؛ حمايةً لنفسِها وللمثقفين المنضوين تحتها...، ولقد وصلت البلادة بالمثقفين أنفسهم إلى حدّ يتأبى على الوصف، فلم يتحرك منهم أحدٌ - كما ينبغي - ضدّ هذا وأمثاله، فعاد الشيخ – كما عاد سابقوه - مظفراً منصوراً، يحمل على كتفيه الساحة الذبيحة، وجثث المثقفين.

أيعقل أنْ يمرّ كلامٌ كبيرٌ كهذا بلا محاسبة ؟ أين المحامون الذين يشتركون معنا في هذا العالم ؟ أين الشعراءُ وأين إحساسهم الذي ينتفض ساعةَ الكريهة، فيلقي عنه القبرَ والكفنَ ؟ أين أعضاءُ مجالس الأندية الأدبية من هذه الأقاويل، التي تدقّ بينهم وبين المجتمع عطرَ منشِم ؟ أين (الهاش تاق) الذي يعرّي هذه المقولة، ويدين غيابَ معطياتها ؟ أين المثقف المحارب، الذي عهدناه قويا في الثمانينيات، يدفع عن نفسه وقبيله بالصوت الندي والقلم المسلول...؟ أسئلة تمضي ولا جواب لها إلا في الصدى !

لم تقف القضية عند هذا الحدّ، وإنما تجاوزتها إلى ما هو أكبر؛ فصارت مؤسسات الثقافة – في خطابات بعضهم - معادلاً موضوعياً للانحلال، وصار لزاماً على المرأة المحافظة أنْ تنأى بنفسها عن هذا العالم المأفون !

أطلقها مدوية: «ما كان يحدث عارٌ وخزي»، فالتقطها الخصوم بإخلاص حقود...، دحرجوا كلمة الثلج حتى كبرت...، وأعطوها المشروعية بصور مكذوبة، جُمعت من هنا وهناك...، اكتملت الجملة في الأخير، ونجحت المهمة، القائل مثقف، والوثيقة صورٌ فوتوغرافية، وشهودُ عيانٍ نجهلُ حالَهم وذواتهم، والنهاية نَقْلُ النشاطِ بكامله من (مؤتمر للمثقفين) إلى (فضيحة في فندق)!!

تراخت الوزارة عن تصعيد القضية إلى القضاء، وتخوف المثقفون من المغامرة، بل حتى من المواجهة المحسوبة، فأخذت الكلمة مصداقية أكبر؛ لأنها لم تجد من يسقطها بالقانون ولا بالأخلاق، ومضت الصور، وتشكل الرأي العام، وانتهى كلّ شيء !

أتساءل هنا من يحمي المثقفين إذا لم يحموا أنفسهم ؟ ومن سيدفع عن الوزارة إن لم تفعل الوزارة ؟ كيف يمكن للمثقف أن يؤدي دوره في ساحة تُنصبُ له فيها المشانق والمآزق، ويصادر في أطرافها استقلاله واستقلاليته ؟

كيف يمكن أن يجذب النشاط الثقافي مجتمعاً يتوجس منه ومن سدنته خيفةً ؟ وكيف سيبلغ من يستهدفهم وهو مسبوقٌ إليهم بتحذيراتٍ، بعضها في الغداة، وبعضها الآخر في العشيّ ؟

كيف يستطيع المثقف السعودي التفرغَ لمشروع علمي، يتجاوز به الحدود، وهو يُشغلُ من حين إلى آخر باتهامات تفرض عليه أنْ يخرجَ من (الفعل) إلى (ردّ الفعل)، ومن (الهجوم) إلى (الدفاع) ؟ وكيف يمكن أنْ يصل إلى الناس والخصوم ترفع في وجهه العقبات، وتزرع في طريقه الألغامَ، ونقاطَ التفتيش، وحواجزَ الرمل ؟

كيف له أن يكون موثوقا ومؤتمنا وهو يخوّن بمجرد انتمائه إلى الساحة الثقافية، وبمجرد عمله تحت مظلة (وزارة الثقافة والإعلام)، وبمجرد انتمائه إلى صحيفة ورقية ؟!

لنمتلك الشجاعة، ولنقل بصوت (لا يتجاوزنا على الأقلّ) : لقد هانت الثقافة على أهلها، فهانت على أبناء (الجيران)...، لقد هان المثقف على نفسه، و»من يهن يسهل الهوانُ عليه / ما لجُرحٍ بميّتٍ إيلامُ !! «، وإذا لم يتدارك المثقف نفسه، ولم تتحرك الساحة الثقافية لحماية نفسها، فإنّ غربتهما ستزداد، وستكون - في أحسن حالاتها - أكبرَ من غربة صالح في ثمود !!

تويتر: @alrafai الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة