Culture Magazine Thursday  14/06/2012 G Issue 377
فضاءات
الخميس 24 ,رجب 1433   العدد  377
 
الأقوى من جميع المؤهلات.!!
وائل القاسم

 

أجل، إن بعض الملتحين في مجتمعنا -مع احترامي لهذه السنة النبوية- قادرون على قول ما يريدون لمن يريدون وفعل ما يريدون بمن يريدون، بالكيفيّة التي يريدون وفي الوقت الذي يريدون، دون أن يستطيع الاعتراض على ما يريدونه أحد، مهما كان ذلك الأحد.. ومهما بلغت درجة الخطأ أو الخطيئة أو الانحراف أو التلاعب أو الغطرسة أو التعسّف أو الإجرام أو التسلّط أو الضلال أو الوصاية أو العنجهية في أقوالهم أو أفعالهم.

نتفق على أن للدعاة والوعاظ ومن يدخل في حكمهم من «الملتزمين» دوراً يقومون به في المجتمع، ولا أحد ينكر أنهم ينشرون -أحياناً- بعض القيم والأخلاق الحسنة؛ ولكن الإشكال الجلي يظهر عندما يتحدث بعض الوعّاظ وغيرهم من رجال الدين في غير مجالهم، فيأتون بالعجائب والكوارث والطوام. والإشكال الأكبر من ذلك هو عندما يتصدَّر بعض الجهلة من الوعاظ للفتوى، متجاهلين الأنظمة الصادرة في هذا الشأن، وعلى رأسها القرار الملكي الكريم الحديث، الذي أمر بقصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء ومن يأذن لهم الملك بذلك فقط.

إذن نحن نقف أمام إشكالين عويصين، فقد اعتاد المستفتون في مجتمعنا -للأسف الشديد- على قبول الفتوى وغيرها، من أي شخص يظهر على شكله الخارجي الالتزام بالسنن الدينية، حتى لو كان أجهل الناس بأحكام الشريعة الإسلامية، كبعض أئمة المساجد والمؤذنين والمتعاونين مع جماعات الهيئة وغيرهم.. واعتادوا أيضاً -أي الناس- على استفتاء بعض الشرعيين في كلِّ شيء، حتى لو كان ذلك الشيء خارجاً عن حدود معرفتهم ومجالهم واطلاعهم. والغريب هو أن فئة لا يستهان بعددها من الوعاظ يتجاوبون مع البسطاء في ذلك بحماس منقطع النظير، فلا يتورَّع الواحد منهم عن الإجابة عن أي سؤال، حتى لو كان ذلك السؤال في موضوع يجهله تماماً، أو في مسألة دقيقة في مجال عميق خاص، أو علمي شائك صعب على غير الملمِّين به، كالطب أو الهندسة أو الكيمياء أو الفيزياء أو علوم الفلك والذرة والبحار أو الفلسفة أو علم النفس أو الجيولوجيا أو التكنولوجيا أو الاقتصاد أو الأدب أو الإعلام أو القانون أو السياسة، أو غيرها من التخصصات الكثيرة المستعصية على غير أهلها.

إنهم بعضهم غارق في بحار الغباوات والحماقات.. إنهم يتخبطون ويهذون في كل شيء دون تردد أو رهبة أو حذر.. لقد أصبح بعض رجال الدين في مجتمعنا -في نظر العامة الدهماء والرعاع- علماء في كلِّ مجالات الحياة دون أيِّ مؤهلات مميزة في غالب الأحيان.. لقد أصبحت المظاهر الدينية الشكلية أقوى من جميع الشهادات العلمية والخبرات العملية؛ حيث إنها تخوِّل صاحبها -في عرفنا السلبي- القيام بأعمالٍ كثيرة غير مشروعة ولا معقولة دون أيِّ ضوابط أو شروط، ومن ذلك الحديث في كلِّ الفنون والتخصصات دون استثناء، حتى لو كان المتحدِّث أجهل من حمار أهله فيها أو في بعضها!

وليت الأمر توقف عند هذا الحدِّ، فقد صار من الواجب على المتلقي الاقتناع بآراء الدعاة والوعاظ في كلِّ مسألة من مسائل الحياة رغم أنفه.

إذا قال الشيخ شيئاً فيجب عليك السمع والطاعة والاستسلام والخضوع والخنوع، حتى لو كان رأي ذلك الشيخ معارضاً لقناعاتك الشخصية، أو مخالفاً لآراء علماء أو مفكرين أو فقهاء آخرين من خارج دائرته الضيقة، أو متصادماً مع كلام المختصين في مسألة من المسائل العميقة البعيدة كلّ البعد عن ثقافة غالب رجال الدين ومعرفتهم القاصرة وفهمهم السطحي المعوجّ.

أما إذا رفض الإنسان تقديس ذلك «الواعظ الجماهيري الشهير» والانصياع لأفكاره وقبولها والترحيب بها، فحدِّثْ ولا حرج عن أشكال وألوان الهجوم الذي سيتعرض له من القطيع المؤدلج الثائر المبرمج على نطح كلِّ مختلف مع رموزه بقرونه الحادة التي لا ترحم!!

إن المحتجَ في بلادنا على أيِّ قضية يقررها بعض (المشايخ) ضالٌ منحرف يستحق أبشع وأشنع وأفظع صور الإساءة في نظر شريحة كبيرة من المؤدلجين ومغيبي العقول في هذا المجتمع الغريب للأسف الشديد، حتى لو كان الاحتجاج على قضية فرعية يسيرة من قشور الدين التي اختلف فيها الملايين من الناس، منذ عصر النبي محمد –عليه السلام- وحتى اليوم.

لا يحق للحليق الاحتجاج على ما يقوله الملتحون أبداً، وإذا حاول أن يثور أو يحتج أو يعمل عقله في كلامهم، أو يفكر بطريقته الخاصة التي تختلف عن طريقتهم، فإنه في نظر المتطرفين مستحقٌ للبصق على وجهه الفاسق!

إننا نعاني من دوغمائية وجمود ونرجسية المتنطعين دينياً في هذا الوطن. لقد بلغ الأمر حداً لا يمكن السكوت عنه إلى الأبد.. لقد ضقنا ذرعاً بهم في كل مكان؛ فالتصلب الفكري والتطرف الأصولي وحدّة الطباع المتصنعة وغلظتها والتقعر في الألفاظ والتعالي عند الحوار أو النقاش، والنظر إلى المختلف معهم بعين الانتقاص والازدراء، سماتٌ مشتركة تجمع هؤلاء الملائكة المنزهين المعصومين. ومن ذلك -مثلاً- أن بعض رموزهم لا يرد السلام في مكتبه أو مكان جلوسه أو درسه أو عمله إلا على الملتحين وقصار الثياب فقط!!

أعود للموضوع بعد هذا الاستطراد اللاإرادي فأقول: إن تطفلَ بعض الإسلامويين في بلادنا على المجالات العلمية التي يجهلونها قديمٌ متوارث، فعندما تحدَّثَ عددٌ من الدعاة ورجال الدين السعوديين السالفين -رحمهم الله- عن «كروية الأرض» مثلاً، انطبق عليهم تماماً المثل القائل: (من تكلَّم في غير فنّه أتى بالعجائب)، فقد بلغ الحال بهم إلى القطع والجزم بعدم كروية الأرض، ولهم مؤلفات شهيرة في ذلك، أنصح بها محبي الفكاهة والضحك.

واستمر الحال كذلك، حتى ظهر علينا في هذا العصر جيلٌ جديدٌ من الدعاة والوعاظ، الذين أصبحت متابعتهم شبيهة بمتابعة عروض المهرجين والممثلين في صالات العروض والمسارح، فهم لا يقلون عن أسلافهم الغابرين في التخبط والظلامية والرجعية والهمجية والانغلاق والتعصب الأعمى المقيت!

لقد كانت وما زالت ساحات الوعظ والإرشاد والإفتاء في بلادنا مرتعاً خصباً للمتلاعبين بالدين، ومناخاً مناسباً للعابثين بالمعرفة والفكر والثقافة، في شتّى الميادين وعلى الأصعدة كافة، ونأمل أن لا تستمر على هذا الحال البائس الذي يرثى له.

أتمنى أن يصدر قراران سريعان صارمان، يمنع الأول منهما غير المتخصصين في الشريعة من الفتوى عامة، ومن الفتوى في مواقع التواصل الاجتماعي خاصة، فقد زاد عبثهم في تلك المواقع وتجاوز الحد. كما أتمنى أن يشمل هذا القرار ضرورة اختيار المرنين والمتسامحين من العلماء، وإبعاد وعزل المتنطعين المتطرفين المتصلبين منهم، فديننا دين يسر وسماحة، ولن يُشادَّ الدين أحدٌ إِلا غلبه، كما ورد عن النبي عليه السلام في الحديث المتفق عليه.

أما القرار الثاني الذي نأمل أن يستعجل المسؤولون في إصداره أيضاً، فهو القرار الذي يمنع المتخصصين في العلوم الشرعية من الحديث في غير مجالهم، ما لم يكن الواحد منهم محيطاً ملمّاً بالمجال الذي يتحدث عنه.

وهناك أمر آخر لابد من الإشارة إليه هنا، فقد أصبح الالتزام بالدين (ظاهرياً) وسيلة للنصب والاحتيال في الأسواق، وتقديم غير الأكفاء -أحياناً- على من هو أكثر كفاءة منهم عند التوظيف في مهنة معينة، تحت ذريعة «حسن الظن» أو تحت مسمى «التزكية»، وهو المسمى الذي نشره بيننا كثير من رجال الدين، كبديل لكلمة «الواسطة» لأنهم يستطيعون من خلاله ممارسة رغباتهم الشخصية في توظيف من يريدون أو تفضيله على غيره من الناس في الجامعات والكليات وغيرها دون أن ينتقدهم أحد. وهذه قضية خطيرة جداً على المجتمع، وتهدّد جميع معايير العدالة ومقاييس المساواة وقوانين الحقوق الإنسانية فيه، ولابد من الالتفات لها بحزم، والوقوف أمامها بصرامة وجديّة، قبل أن يتسع الخرق على الراقع.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة