Culture Magazine Thursday  14/06/2012 G Issue 377
فضاءات
الخميس 24 ,رجب 1433   العدد  377
 
رؤية
ثقافة الالتفاف والتهرب!
فالح العجمي

 

يقول المثل العربي القديم: «أنفك منك وإن كان أجدع»، ويضرب فيمن يحاول التملص من شيء من خصائصه، أو التهرب من مسؤولياته. وقد سادت لدينا ثقافة في العقود الأخيرة تكرس نقاء المخبر في الذات، وخلو المدعي من كل مسؤوليات عما يناقشه أحد بشأنه. فما الذي ابتلانا بهذه السمات السيئة جداً؟ لماذا هي كذلك؟ لأنها تجعل المرء غير معترف بما لديه من عيوب يعمل على علاجها، أو تلافي تفاقمها على أقل تقدير. ومعلوم أن التشخيص هو أولى مراحل العلاج، ودون تشخيص صحيح؛ ويقتنع به المصاب بالداء، فستبقى الأمور بعيدة عن التحسن، بل تزداد الحالة سوءاً مع الزمن. بل إن تلك السمة بالذات تتحول إلى مرض نفسي، تتزايد بسببه الإسقاطات، والتبريرات الوهمية لمؤامرات غير موجودة في الواقع؛ لأن صاحبه لا يصدق أن الآخرين يتأذون من ذلك السلوك، فيظن بأن اتفاقهم على تحاشي مناقشته، واستبعاده من المداولات التي تحتاج إلى منطق سليم يقع ضمن مؤامرة ضده أو كره لشخصه.

أضرب من الأمثلة الشائعة على تلك الحالات ما يمارسه المدخنون من إيذاء للبيئة المحيطة بهم، والناس الذين يوجدون في محيطهم. وعندما تناقش أحدهم في مكان ممنوع فيه التدخين، يأتيك بكل العلل، إلا أن يكون مخطئاً، وقلما يعتذر أحدهم عن سلوكه المشين بحق الآخرين، وبحق النظام الذي ينتهكه دون خجل من الناس أو من نفسه.

وكنت قد خاطبت أحدهم منبهاً إياه، بأنه محظور عليه إشعال السيجارة في ذلك المكان العام المليء بالناس، وخصوصاً الأطفال، فما كان منه إلا أن بادرني بسؤال مقابل: أنت تشتغل هنا؟ وعندما أتيته برجل الأمن الذي أكد أنه قد ارتكب محظوراً، وقد كان أطفأها أثناء استدعائي رجل الأمن، بادر بالنفي، مستهيناً بممارسة الكذب، خصوصاً أمام زوجته وابنته. فهل هذه السلوكيات هي ما نتعلمه في مدارسنا ومجتمعنا الذي نفاخر دائماً بخصوصيته الأخلاقية؟

ووقفت على آخر في متجر بأحد الأسواق الكبيرة، وهو موظف في ذلك المتجر، يدخن عند مدخل المتجر (داخل السوق)، فنبهته إلى ارتكابه محظوراً مضاعفاً؛ فهو يدخن في مكان ممنوع فيه التدخين، ويلبس شعار الموظفين، فسيكون قدوة سيئة لمن يراه من زبائن السوق. وبدلاً من اعترافه بالخطأين أو أحدهما، بادر بالالتفاف على الموضوع إلى اتهام الجميع بأنهم يخالفون النظام، وأنه يعمل طول الوقت، ولا يستطيع أن يذهب بعيداً (خارج السوق)، لكي يدخن. وكان زميله بجانبه (لم يكن يدخن، لكنه يحاول مساعدته بحجج التهرب من المسؤولية)، فتدخل بقوله: هذا - الله يجيرك - مبتلى، ويش يسوي؟ فرددت عليه بأنه ليس لي شأن بكونه يدخن «مبتلى» أو «مختار». صحته أو خضوعه لإدمان النيكوتين أمر شخصي يعود إليه، وأنا لست واعظاً، ولا مرشداً صحياً، كل ما أريده هو حقي في هواء نقي، وحق الأطفال في عدم إجبارهم على التدخين السلبي.

هل تعالج مؤسساتنا التعليمية هذه الأمراض النفسية، أو تهتم بتربية النشء على منطق سليم، لئلا ينشأ أصلاً هذا العوج المنطقي لديهم؟ سألت أبنائي عن مثل هذا النوع من التوجيه، فقالوا: كل المحاضرات والندوات التي تقدم لنا عن موضوعات دينيه أخذنا أكثر أحكامها في كتب الدين في مقررات المدرسة. قلت: طيب هل يربطون بين ما يعلمونكم إياه من فضائل نظرية بسلوك الناس، بحيث تنعكس التعليمات على تعامل المتعلم بدلاً من أن تبقى مخزنة، كأنها شريحة كمبيوتر؟ قالوا: لا، أبداً. بل إن سلوك مدرسي الدين ومن يقدمون المحاضرات أبعد ما تكون عن القدوة الطيبة. قلت: إذاً هنا تقع المصيبة!

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة