Culture Magazine Thursday  15/03/2012 G Issue 367
فضاءات
الخميس 22 ,ربيع الآخر 1433   العدد  367
 
الشعر القديم والحكايات الخرافية «3»
فاضل الربيعي

 

إن هذا النقاش المتواصل حول الشعر الجاهلي وقيمته في التعرّف على التاريخ والثقافة والمجتمع، تلازم مع بروز مشكلات بدت مستعصية على الحل، سرعان ما برزت في عصر الأصمعي. كان الأصمعي برحلاته إلى البادية، يفتش ويسجل كل غريب في كلام العرب، لا من أجل المساهمة في تأويل معاني القرآن، وإنما بدرجة أبعد من ذلك، إنشاء وتأسيس علم جديد لم يعرفه العرب من قبل، يقوم من بين ما يقوم على دراسة المجتمع ميدانياً، وإمعان النظر في الراسب الثقافي التاريخي. هذا الراسب الذي تبدى أمامه بوصفه الخزّان الثقافي الضخم للعرب، لم يكن سوى الأنثروبولوجيا. ولعل أفضل نقد وجهته ثقافتنا العربية المعاصرة لتجارب القدماء في نقد الشعر الجاهلي، هو الذي قامه به إحسان عباس الذي رأى أن عمل الأصمعي المنظم، لم يخلو هو الآخر من التعسف (بسبب التصاقه بالرواية واللغة ذلك الالتصاق الشديد لم يسمح له أن يراها بوضوح أو أن يتمثلها؛ ولكن رغم ذلك كله كان الأصمعي - فيما اعتقد - بداية النقد المنظم لأنه أحس ببعض المفارقة التي أخذت تبدو في أفق الحياة الشعرية، غير أنه بدلاً من أن ينظر إلى المشكلة في ضوء تطوري، نظر إليها من خلال موقف ثابت، نظر إلى الشاعر - أياً كان - فوجده أحد اثنين، فهو إما فحل وإما غير فحل، ونظر إلى منبع الشعر فوجده أيضاً واحداً من اثنين إما الخير وإما الشر).

وقد يكون ابن سلام، بالنسبة لإحسان عباس (أشد صلة بالنقد المدروس من الأصمعي، ولكنه يشبهه في أنه حصر رؤيته ضمن ذلك «الثبوت» الذي يمثله الشعر الجاهلي والإسلامي. والأصمعي يرى الشاعر فحلاً أو غير فحل، ولكنه يزيد عليه في أن الفحولة درجات، ومن ثم كانت نظريته في الطبقات. وتقع المشكلة التي تورق ابن سلام ضمن ذلك الإطار الثابت، وهي التمييز بين الأصيل والدخيل من ذلك الشعر القديم، ثم هو لا يعني بشيء آخر، بعد أن مزج بين النقد والتاريخ الأدبي، وأقام الثاني منهما على قاعدة نقدية دون أن يهتم كثيراً بالتعليل في اختياره لتلك القاعدة).

هذا التمهيد ضروري لوضع القارئ في أجواء نقاش جديد، غرضه البرهنة على أن للشعر الجاهلي ومعارف العرب القديمة، أهمية من نوع خاص بالفعل في إعادة بناء الرواية عن التاريخ. والدافع الحقيقي لعمل من هذا النوع، يكمن في حقيقة أننا نعيش في قلب تصور عن التاريخ العربي، جرى تلاعب في أحداثه ووقائعه بصورة مريعة، لكننا على غرار القدماء سنعود إلى الشعر الجاهلي والمرويات العربية الكلاسيكية وقواميس اللغة العربية للبرهنة على أننا، يمكن بمزيد من الجهد والمثابرة، أن نروي بوضوح ودقة الرواية نفسها ولكن بصوتنا.

لقد مضى وقت طويل على استسلامنا أمام رواية الآخر الاستشراقي، وقد آن الأوان لنقول أنها رواية زائفة وصلتنا بصوته وبمداد قلمه.

لقد كان مجتمع المسلمين الأوائل، قادراً على التعايش مع المتغيرّ الهائل الذي حدث داخل منظمومة قيمه الثقافية، حين أصبح الشعر الحاهلي، فجأة، عرضة للتصنيف في خانة المحرمات، بسبب من شيوع نظرات تعسفية لم تكن مألوفة في الماضي. وهو تغيرّ ظل مؤثرا ً إلى وقت متأخر، فقد رأى القلقشندي، وهو يعيد تصنيف الشعر أن (الشعر مبني على الكذب والاستحالة من الصفات الممتنعة، والنعوت الخارجة عن العادة، والألفاظ الكاذبة). ولذلك فهو يعيب على الكثير من الشعر أنه انشغل في الهجاء (ومن قذف المحصنات، وشهادة الزور، وقول البهتان، ولا سيما الشعر الجاهلي الذي هو أقوى الشعر وأفحله) ويبدو أن القلقشندي وجد نفسه مضطرا ً إلى تعديل جزئي في رأيه المتعسف هذا (وليس يراد منه إلا حسن اللفظ وجودة المعنى؛ فهذا الذي سوغ استعمال الكذب وغيره مما جرى ذكره فيه. وقيل لبعض الفلاسفة: فلان يكذب في شعره، فقال: يراد من الشاعر حسن الكلام، والصدق يراد من الأنبياء عليهم السلام.. قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع رحمه الله في كتابه تحرير التحبير: وأنا أقول قد اختلف في المبالغة، فقوم يرون إن أجود الشعر أكذبه، وخير الكلام ما بولغ فيه، ويحتجون بما جرى للنابغة الذبياني مع حسان بن ثابت في استدراك النابغة عليه في قوله:

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى

وأسيافنا يقطرن من نجدةٍ دماً

ويضيف القلقشندي في شرح العلاقة بين الشعر والقرآن، (أن مدار الكتابة على استخراج المعاني من القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، والشعر؛ وألفاظها لا تخول عن الغريب؛ بل ربما غلب الغريب منها في الشعر على المألوف لا سيما الشعر الجاهلي. وقد قال الأصمعي توسلت بالملح ونلت بالغريب. وقال صاحب الريحان والريعان: والغريب، وإن لم ينفق منه الكاتب فإنه يجب أن يعلم ويتطلع إليه ويستشرف فرب لفظة من خلال شعر، أو خطبة أو مثل نادر أو حكاية؛ فإن بق يت مقفلة دون أن تفتح لك، بقي في الصدر منها حزازة تحوج إلى السؤال، وإن صنت وجهك عن السؤال، رضيت بمنزلة الجهال. وذم قوماً من وجوه الكتاب بأنه اجتمع معهم في مجلس فتداركوا عيب الرقيق، فلم يكن فيهم من يفرق بين الوكع والكوع، ولا بين الحنف والفدع، ولا بين اللمى واللطع ثم قال: وأي مقام أخزى لصاحبه من رجل من الكتاب اصطفاه بعض الخلفاء، وارتضاه لسره، فقرأ عليه يوماً كتاباً فيه : مطرنا مطراً كثر عنه الكلأ، فقال له الخليفة ممتحناً له: وما الكلأ؟ فتردد في الجواب، وتعثر لسانه ثم قال: لا أدري؛ فقال: سل عنه قال أبو القاسم الزجاجي في شرح مقدمة أدب الكاتب: وهذا الخليفة هو المعتصم والكاتب أحمد بن عمار، وكان يتقلد العرض عليه؛ وكان المعتصم ضعيف البصر بالعربية؛ فلما قرأ عليه أحمد بن عمار الكتاب وسأله عن الكلإ فلم يعرفه، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون خليفة أمي، وكاتب عامي. ثم قال: من يقرب منا من كتاب الدار؟ فعرف مكان محمد بن عبد الملك الزيات، وكان يقف على قهرمة الدار، فأمر بإشخاصه، فلما مثل بين يديه، قال له ما الكلأ؟ قال: النبات كله رطبه ويابسه، فإذا كان رطباً قيل له خلاً، وإذا كان يابساً قيل له حشيش، وأخذ في ذكر النبات من ابتدائه إلى اكتهاله إلى هيجه، فقال المعتصم ليتقلد هذا العرض علينا. ثم استوزره).

هولندا

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة