Culture Magazine Thursday  15/03/2012 G Issue 367
فضاءات
الخميس 22 ,ربيع الآخر 1433   العدد  367
 
آفة الذِّهن الجبنُ
وائل القاسم

 

عندما يختلف عاقلان سويان جادّان حول موضوع معين، فإن الطبيعي هو أن يسمح كلُّ واحد منهما للآخر بطرح ما لديه من الحجج والأدلة والبراهين، التي يراها مؤيدة لوجهة نظره وداعمة لها، ومثبتة - في الوقت نفسه- خطأ رأي خصمه.

ثم يردُّ كلُّ واحد منهما على ما يورده محاوره من إثباتات، بردود يراها كفيلة بدحض كلام مخالفه، وإبطال ما أورده من البينات، أو إضعاف موقفه وبيان جوانب الخلل والقصور في رأيه.

وتستمر المناظرة بينهما بهذه الطريقة، ويستمر الحوار ماتعاً نافعاً دون قيود أو حدود أو عوائق أو حيل أو مراوغات، حتى ينتهيان.

هذا هو السائد الغالب عند الأسوياء؛ ولكن أمر بعض المتحاورين عجيب وشاذ عن ذلك السائد المألوف في الحوار، فهؤلاء رغم أن الكثيرين منهم يمتلكون أدوات الحوار الجيّد، ولا يقلّون عن غيرهم في قدراتهم العقلية ولا في سعة الاطلاع والمعرفة، إلا أنهم يضعون أمامهم وأمام محاوريهم خطوطاً حمراء يجب أن لا يتجاوزها النقاش والتناظر الفكري أبداً، مهما كانت الأسباب والمبررات!

إنهم خائفون من الآخر.. خائفون من فكره.. مذعورون منه.. يخشونه ويخشون ما لديه. إنهم لذلك يتوقفون عند حدودهم وقيودهم وأسوجتهم التي طوّقوا بهاعقولهم.. لعلمهم أن الاسترسال مع الآخر في الحوار دون حدود، قد يمكّنه من تمزيق ثياب قناعاتهم الرثّة بسكاكين الحجج الدامغة، وهذا ما يقلقهم. إنهم -باختصار- يخشون اكتشاف خطأ ما هم فيه.

لقد أزعجني هؤلاء شخصياً أكثر من مرة، فبعد أن يأخذ الواحد منهم من وقته ووقتي الكثير، يتوقف ويعلن إغلاق باب الحوار في موضوع معين، سواءً كان ذلك الحوار مباشراً في مجلس أو مكان معين، أو كان كتابة إنترنتية في موقع الكتروني أو صفحة دردشة خاصة، أو عبر الماسنجر أو غير ذلك.

يعلن التوقف دون سبب، بعد أن حمي الوطيس وترابطت الأفكار وزادت المتعة الحوارية، وعندما تُظهر له انزعاجك من تصرفه أو دهشتك من فعله، يردُّ عليك بأنه لا يريد الاستمرار في النقاش لأن الحديث الشيّق الذي دار بينكما وصل إلى منعطف خطر، واقترب من تجاوز الخطوط الحمراء التي لا يريد تجاوزها !!

قلتُ لأحدهم قبل أيام: إذا كنتَ مشغولاً الآن أو لديك ارتباط معين، فبإمكانك الانصراف وتحديد موعد آخر نستكمل فيه هذا الحديث، وكانت المفاجأة أنه رد عليَّ بقوله: لا لا أبداً، أنا متفرِّغ تماماً الآن، وبإمكانك الانتقال إلى أيِّ موضوعٍ آخر، ولكني قد أعلن توقفي عن إكمال الحديث معك في أي نقطة، إذا شعرتُ بأنه يجب عليَّ التوقف، فهذه طريقتي التي تعوّدت عليها.. ليس في الحوار وحده، بل حتى في القراءة وغيرها من وسائل المعرفة. هناك حدود لا أستطيع تجاوزها، ولا التعمّق في النقاش حولها إطلاقاً!!

إن الاستسلام والخضوع للأصوات العالية أو المسيطرة أو المألوفة الموروثة، ورفض التبحّر في أي موضوع يعارضها، يجعل المستسلم ذليلاً خانعاً مُعطَّل القدرات الذهنية.. إنه يجعله يسعى جاهداً بكل سذاجة إلى إخراس كلِّ صوتٍ يعارض تلك الأصوات أو يحاول انتقادها، طلباً للسلامة والأمان وراحة البال، وغيرها من مطالب جبناء الفكر والثقافة.

لن أستعرض الأسباب التي تدفع جبناء المعرفة للتوقف عند حد معين، فهذا شأنهم الخاص بهم، الذي قد لا يرونه جبناً من منظورهم الذي أحترمه وأقدره رغم غرابته؛ ولكني أتمنى منهم عدم إشغال الآخرين وإضاعة أوقاتهم في النقاشات أو المناظرات، ما لم تكن لدى الواحد منهم الثقة الكاملة في نفسه وفي أفكاره وقناعاته، والثقة –قبل ذلك- في أنه بلغ مرحلة من النضج تجعله قادراً على الانصياع للحجة الأقوى، والتنازل والتراجع عن أيِّ رأي أو موقفٍ فكريٍّ يتّضح له من خلال حواره مع خصومه بطلانه، أو هشاشته وضعفه بالأدلة والبراهين. من النادر أن يمرّ عليَّ أسبوعٌ في مواقع التواصل الاجتماعي -مثلاً- دون أن يصلني طلبُ حوارٍ أو مناظرة، وتكون غالب تلك الطلبات مشحونة بجرعات عالية من الحماس المدهش، الذي يوحي في البداية –أحياناً- بجديّة صاحبه، ورغبته الأكيدة في النقاش الهادف إلى معرفة الصواب وملامسة الحقيقة المقنعة في موضوع معين؛ ولكن أصحابها لا يستمرون في ذلك ويتحولون عنه بسرعة، إما بالشخصنة التي تخرج عن حدود الأدب والاحترام المفترض بين المتحاورين العقلاء، أو بإعلان الانسحاب والتوقف بشكل مباشر، أو بشكل تكتيكي لا مباشر؛ أعني التهرب وخلط الأوراق والقفز بطريقة فوضوية إلى مواضيع متفرقة لا علاقة لها بمحور النزاع لا من قريب ولا من بعيد، أو بعيدة عنه قليلاً أو كثيراً.

ولذلك أصبح من الصعب على الشخص قبول أيِّ دعوة للنقاش أو الحوار في الإنترنت، أو في غيره من القنوات والوسائل الإعلامية، قبل أن يتأكد من حقيقة الداعي وأهدافه، ومستوياته المعرفية والثقافية ونضجه العقلي إن كان هو المناظِر، ونضجه المهني وقدرته على الحياد الحقيقي إن كان معدّاً أو مشرفاً أو مقدماً أو مذيعاً أو راعي اً لذلك الحوار...؛ لأننا ببساطة لا نستطيع -في ظل هذه الفوضى الثقافية العارمة- التنبؤ بما سيحدث في تلك الحوارات، وليس هناك ما يضمن للمدعوّين خلوها من تلك الأساليب الطفوليّة التي يمارسها العاجزون والمفلسون!.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة