Culture Magazine Thursday  15/11/2012 G Issue 385
عدد خاص
الخميس 01 ,محرم 1434   العدد  385
 
يمزج العشق بالماء... إنه خالد الفيصل
د. كامل الصاوي *

 

تحدثنا محاورة العربي القديم مع مكانه أن الماء كان ندّاهة العربي ومغناطيس خطواته، فالعربي القديم اختار له الماء مكان إقامته، وفي الوقت ذاته طرده الماء أيضاً عن أماكن أقام فيها فترة، العربي القديم وجوده وجود الماء، يحدد له المسافات والطرق بل إنه حدد أيضاً أي الصدور تكون مهبطاً للحراب - حروب العربي القديم في صحرائه كان جزءاً مهماً منها تمليه عليه المياه الشحيحة - هذا على المستوى الجماعي أو مستوى القبيلة.

لكن على مستوى الفرد فلقد حدت معيشة العربي القديم في صحرائه إلى خليط عجيب يجمع خشونة الملامح وقسوتها - وربما الطباع أحياناً - هذا على مستوى السطح، أما على مستوى العمق فقد احتوى هذا الخليط الطرف الآخر المناقض إنه الرقة التي تصل حد العذوبة في المشاعر والهوى، بحيث تخبرنا سِيَر فرسانهم عن بأس شديد لكنهم أمام الأنثى تنساب رقتهم، فالعربي المدجج بخشونته تنقله حالة الهوى إلى عربي تأججت عاطفته فنقلته إلى حال رقة وعذوبة عجيبة - ربما كان عنترة بن شداد مثالاً طيباً لهذه الحال أمام»عبلة».

هنا يمكن القول: إن الحب لم يكن مجرد شعور يحتويه القلب بل كان أحد المكونات الأساسية للذات العربية، بل إن الحب سيطر على مجمل عواطف العربي وتلك السيطرة جعلت العربي يتكئ على الحب معبراً عما يعنٌّ له، ومن هنا جاءت الأنثى إحدى أثرى رموز شعرنا العربي على الإطلاق.. وعلى هذا الأساس فإنه ليس الحديث عن الحب بل الكيفية التي يتحدث بها الإنسان عن الحب تكشف لنا عن شخصية المبدع وعالمه ورؤيته للعالم.

* * *

حين نلج إلى شعر خالد الفيصل يفاجؤنا أن هذا الأمير معاصرنا يعيد خياله الشعري إنتاج العربي القديم إنتاجاً كاملاً، حتى لكأنه تصدق في حقه مقولة «كارل يونج»: (إن أنسجة الدماغ من الفنان ترث عمل الجماعة - التي ينتمي تاريخياً إليها) فخالد الفيصل وريث الذاهبين إلى نبغ المياه يجدد عهداً بالعربي القديم ويرث المهمة لكنه يرثها خيالياً، فيطوف خياله قابضاً على كل شيء من موجودات الكون بشروط الماء.. ولئن كان حديثنا عن رجل يمزج العشق بالماء فإنه طبيعي أن يكون للعشق عنده هوية الماء، ولنقرأ تعبيرات خالد الفيصل العشقية المغلفة بالماء وروحه:

(يا قديم الغوص في بحر الهوى) - (خل سقاني في الهوى من شرابه) - (يلفني موج الهوى) - (ما ينقطع ظمأ الهوى) - (اسقني عذاب القراح من ينابيع الهوى) - (شربت من الهوى وأفعمت كاسي) - (المحبة ما سلم من شرب ماها) - (كاس المحبة ماه صافي) - (ما انقطع سيل حبك بالمعاليق جاري) - (حبك منهلى) - (أسقيك من جدول غرامي) - (جتيه على غيمة الأشواق) - (يا ساري بالليل خذ سلامي.. وصبه شوق) - (يا سامرين الليل في بحر الأشواق) - (يبدل بالوصل يابس الريق)..... الخ.

لعله ليس خافياً أن التعبيرات التي استللناها من شعر الأمير خالد تختص بالحالة العاطفية: هوى ومحبة وعشقاً وغراماً، ومع الوضع في الاعتبار أن الهوى والمحب يتعلقان بحالة داخلية، إنها ببساطة حالة انجذاب وتحقق فيها تنجذب النفس المحبة إلى المحبوب ويصبح المحبوب بؤرة هوى الذات.. وهذه الحال (الهوى) حال حساسية خاصة جداً يعيشها كل عاشق بمذاقه الخاص، وليس ثمة تعريف جامع مانع لحالات العشق والهوى.. إنه الشيء الذي نعيشه دون أن نتوقف لنسأل النفس عن هويته، حيث يكتفي العاشق بكونه عاشقاً أما التعريفات فهي لمن هم خارج دائرة العشق.. الحديث عن العشق حديث إذن عن حالة خاصة وأحوال العشاق مواهب.

وهنا نأتي إلى فكرتنا في البحث عن الأصالة والنكهة الفردية لخالد الفيصل حين يتعشق ذلك أنه لا يخفى ذلك الروح المهيمن في حديث الأمير خالد عن الهوى والمحبة إنه حديث ينحو نحو إحساس خاص بروح الماء.. وهنا نقول إن الأمير يعمق الماء ويثقله بحلم إنساني، إذ يتحول الهوى والحب عنده إلى نبع فياض ويصبح العشق مادة أو بعبارة أخرى توشك أحاسيس العاشق أن تأخذ سمتا مادياً مائياً، والأمير خالد إذ يستبطن ذاته ويبوح بهواه لا يجد سوى الماء (الذي أهم العرب القديم) ليكون تعبيراً عن حاله الخاصة.

* * *

إذا كان العشق حالاً داخلية أو إحساساً ذاتياً فإن الذي فجر العشق أنثى مطهمة بحسن يَِشٌد القلب.. هذا أمر بدهي لكن أنثى خالد الفيصل أنثى خاصة إنها موسومة بالمياه وحين تهل فأنها تهل بأمواهها على القلب!

- (سحابة هلت بقلبي مطرها)

- (والسحابة بالهوى هَلّت عليّ)

- (في بحر عينيك تبينت الحقيقة.. كل موجة تنقل لعيني حقايق)

- (هل رذراذك على روض الحشا)

- (والشعر مايج... لون شلال مع المغرب نزل)

- يوم هلت واستهلت وأمطرت روضة عقب الوسم جاها ولي

والجداول بين روضاتي جرت ذا يسيل وذا غدير يمتلي

فالأمير خالد الفيصل إذا يتحدث عن محبوبة حركت القلب يستقل خيالة (غيمة شوق) - إن جاز التعبير - وهو لا يكاد يعزل حركة المحبوبة وملامحها عن الحركة - اللحظة، التي تختزل زمانا مائياً بهياً وبهيجاً فتكون المحبوبة حين تهل سحابة بكل اكتناز السحاب بالأمواه والأحلام... لكن السحابة الماطرة سحابة تمر وتوزع ماءها والمحبون لا يجودون بما لأحبائهم إنه الحب - الخصوصية هنا يسرع خيال الأمير خالد الفيصل إلى أن يشيد من قبلة كونا كاملاً وأرضاً متسعة تتسع بهجة المحبوب الماطر مطراً خصوصياً، فيرحل داخلياً إلى جسده «هو» وإلى الباطن اللدن الحي منه (القلب) - فيكون قلبه - ذات إهلال للحبيبة - كونا محتوياً روضاته ومحتوياً الوسم الخريفي وجّبات المطر - أقول قلبا يحتوي المكان (المخضر) ويحتوي الزمن (الوسم) الذي تحول وتفتح بالمطر الوسمي جنة خضراء... وهنا يمكن القول ببساطة إنه يفتح جسده ليصير أرضاً كاملة تستطيع أن تحتوي محبوبة لا تحتويها أرض، قدر ما يحتويها قلب عاشقها.. ومن منظور مائي حميم.

وبعد أعرف أنه من الصعوبة الحديث عن شاعر مثل خالد الفيصل في هكذا عجالة تحكهما كلمات معدودة أو محددة. لكني حاولت أن أمس فكرة خاصة قوامها أن خالد الفيصل ذلك العربي المعاصر هو وريث وسليل عربي قديم حكمته المياه والحب فكونا شخصية العربي وثقافته وها هو خالد الفيصل يجدد عهد العربي القديم ويرث مهمته فيعقد الرباط الآسر بين الحب والماء كما سبق للعربي القديم أن فعل.

- ما بين الأقواس هي أقوال خالد الفيصل * جامعة المنيا - مصر

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة