Culture Magazine Thursday  15/11/2012 G Issue 385
عدد خاص
الخميس 01 ,محرم 1434   العدد  385
 
ثقافة لا تهدأ!!
أ.د. محمد بن علي الهرفي *

 

أستطيع القول: إنني أعرف الأمير خالد الفيصل منذ أكثر من ربع قرن؛ ومع أنني لم أجتمع به إلا عدة مرات، إلا أن معرفتي به تزداد يوماً بعد آخر، فالمثقف ليس مثل غيره، فعطاؤه كاف لكي تكون صلته بالآخرين مستمرة وبصورة ممتازة.

قرأت لخالد الفيصل؛ شعرا ونثرا، ورأيت مجموعة من اللوحات الجميلة التي يرسمها، واستمعت إلى حديثه محاضراً وخطيباً ومناقشاً لما يستمع إليه.. الأمير خالد الفيصل يحمل صفات طيبة، ويتمتع بشخصية جذابة، ومن هنا يصعب في مقال واحد الحديث عن تلك الصفات ولهذا سأتحدث - وباختصار - عن صفة واحدة شدتني إليه كثيراً هي صفة (الثقافة) التي يحملها، وصفة الثقافة التي أحبها.. في منطقة عسير قضى خالد الفيصل جزءا من عمره وكان له في تلك المنطقة بصمات لن تُنسى، ولعل بصماته الثقافية كانت واحدة منها إن لم تكن أهمها.

المهرجان الثقافي العسيري تمتع بشهرة واسعة؛ جمع المفكرين والعلماء والتراثيين وكل من له اهتمام بالثقافة.. التقى هؤلاء جميعا في أبها، وتحت رعاية (خالد الفيصل) الذي كان يحرص على الاجتماع بهم، ومناقشتهم، والاستماع الى بعض شعرائهم، والأهم من هذا كله الحديث معهم عن الثقافة وهمومها، وكيفية جعلها زاداً يومياً للناس ولم يكن ينسى في خضم الحديث الثقافي إغراء الجميع بحب أبها لكل ما فيها من مميزات، وإغرائهم بزيارتها دائما وأبدا.

المهرجان الثقافي في عسير كانت علامة فارقة في تاريخ المنطقة، وكان يتطور عاما بعد آخر؛ كيفا ومعنى.

ولأنه عمل طيب فقد استمر بعد ان ترك خالد الفيصل المنطقة ولأنه طيب فإن مناطق أخرى في بلادنا حزت حزوه فأصبحت تقيم مواسم ثقافية كل عام في الصيف.

العمل الحسن لا ينتج إلا شيئاً حسناً.. ومن سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.

وقد اجتهد الأمير خالد الفيصل كثيراً لكي يوجد تعليما جامعيا في عسير، وأعرف أنه كان وراء إنشاء فرع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الذي تخرج منه مئات الطلاب الجامعيين، ثم كان وراء تحويله مع كليات أخرى الى جامعة الملك خالد في أبها.

خالد الفيصل كان يفتح مجلسه لمجموعات من المواطنين كل يوم - تقريباً - وخصص أحد هذه الأيام للمثقفين يجتمعون عنده، ويتحدث أحدهم، وكان يدير الجلسة بنفسه وأجد من المناسب ان أذكر هنا انني تحدثت أكثر من مرة في هذا المجلس، وأعرف انني تبنيتُ آراءً اعتقد أنها تخالف ما يعتقده، واحمد له - ولأول مرة أقول هذا - انه كان واسع الصدر، يتقبل الآراء الأخرى وهذه سمة المثقف الحق.

ولازلت أذكر انه بعد حديثي الأول في مجلسه وعلى مائدة العشاء حدثني عن مؤسسة الفكر العربي، وأنها ستعقد مؤتمرها في القاهرة، وطلب مني حضور هذا المؤتمر، وقد فعلت واستفدت منه كثيراً.

مؤسسة الفكر العربي وجهة ثقافية أخرى من إنتاج الأمير خالد الفيصل، أراد منها أن يكون المال في خدمة الثقافة، ولهذا شجع مجموعة من رجال المال أن يستثمروا جزءاً من أموالهم لخدمة ثقافة أمتهم العربية، وللأسف الشديد فإن معظم رجال الأعمال العرب لا يكادون يدركون أهمية الثقافة في بناء الأمم وحضارتها ومكانتها بين أمم الأرض الأخرى، بل إن معظمهم لا يكاد يعرف أن ثقافة أي أمة تنعكس على اقتصارها، ولو أدركوا ذلك لكان عطاؤهم الثقافة أمتهم أفضل بكثير مما نراه اليوم.

خالد الفيصل أدرك هذه الحقيقة، وبجهوده استطاع اقناع مجموعة من رجال الأعمال ان يساهموا في ميزانية مؤسسة الفكر العربي لكي تستطيع أداء الدور الذي رسمه لها مع

أعضاء المؤسسة الآخرين.

شيئان مهمان - من وجهة نظري - استطاع الأمير خالد ان يوفرهما لهذه المؤسسة، ولولاهما لفشلت - هكذا اعتقد -

الأول منهما: ان القائمين على المؤسسة يجب ألا ينتموا لأي حزب لأن اتباع الأحزاب لا يمكنهم الفكاك من أحزابهم، ولو لا هذا الشرط لأصبحت المؤسسة مجموعة أحزاب متصارعة، وهنا لن يكتب لها الحياة.

وثانيهما: ان حرية الكلام في اللقاءات العامة كانت متاحة لكل متحدث أو مناقش.. ولو لا هذه الحرية لاتهمت المؤسسة في انتمائها الفكري أو المناطقي وأيضا لولا هذه الحرية لانتهت المؤسسة، ولما كتبت لها هذه الحياة.

الموضوعات التي ناقشتها المؤسسة في غاية الأهمية، وأعرف مما قاله الأمير ان هذه الأبحاث والتوصيات تقدم لكل المسؤولين العرب لعلهم يستفيدون منها في اصلاحاتهم وخططهم المستقبلية، وشخصيا أتمنى ان يستفيد منها هؤلاء لأنها تصب في صالح الشعوب العربية؛ حاضراً ومستقبلاً.

مؤسسة الملك فيصل، والجوائز التي تفرعت عنها، كانت ميزة أخرى للأمير خالد الفيصل ولاخوانه الكرام.

هذه الجائزة حققت شهرة عالمية، وأسهمت في تشجيع البحث العلمي في العالم كله، ويكفي ان أقول: ان عدداً ممن نالوا هذه الجائزة حصلوا على جائزة نوبل العالمية.

وانتقل الأمير خالد إلى مكة المكرمة، وانتقل معه همه الثقافي رغم ان مكة المكرمة لها همومها الإدارية المعقدة، لكنه - وكما كان - وضع الهم الثقافي أولوية له لإدراكه ان الثقافة وحدها قادرة على فتح كل القضايا والأبواب المغلقة!!

جائزة مكة المكرمة للتميز كانت من بواكير أعماله، وأحد أهم بنودها كانت جائزة مكة للتميز الثقافي، بالإضافة الى عدد آخر من الجوائز التي تشجع الجميع على جودة العطاء واستمراره.

ثم انطلق إلى (عكاظ) ذلك التجمع الثقافي الجاهلي، فأراد ان يبعث فيه الروح بعد ان أنهكه الموت ولكن على الطريقة الإسلامية!!

العرب في جاهليتهم كانوا شعراء وأدباء وفرسان، وكانت لديهم أخلاق جميلة، وجاء الإسلام فهذب هذه الأخلاق ووجهها بصورة تخدم الأهداف الإسلامية، وهكذا استمر عطاء العرب ولكن بصورة متكاملة.

سوق عكاظ الحالي يجمع بين الأهداف الثقافية والاقتصادية وغيرها - هكذا سمعت الأمير يقول - والثقافة - هنا - تعني كل أنواع الثقافة التي يأمل خالد الفيصل أن تتحقق من خلال هذا السوق وان بعد حين.

فكرة السوق مبتكرة واعتقد أنها لن تكون محلية، فالعرب وسواهم سيستفيدون من (عكاظ) بعد ان يكتمل المشروع؛ سيجدون فيه الثقافة، والتاريخ، والآثار، كما سيجدون فيه ما يرّدحون فيه من انفسهم وأولادهم، وغير ذلك.

الحديث عن الهم الثقافي عند الأمير خالد الفيصل حديث ذو شجون، له تاريخ طويل، بدأ معه، ولن يتوقف أبداً، وسنرى إبداعات من هنا وهناك، منها ما يزاوله بنفسه؛ شاعراً وكاتباً، ومنها ما يسنده لغيره في بلادنا وخارجها. ويبقى العطاء الثقافي أهم ما يمكن ان يقدمه المرء لأمته، لأن الأمة المثقفة لا تموت.

* أكاديمي وكاتب صحفي

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة