Culture Magazine Thursday  16/02/2012 G Issue 363
فضاءات
الخميس 24 ,ربيع الاول 1433   العدد  363
 
رؤية
حدود الثابت والمتغير
فالح العجمي

 

انطلاقاً من إهداء زميلي البارع الأستاذ الدكتور محيي الدين محسب على كتابه «الأسلوبيات الأدبية»: «إلى فالح/ الثبات في زمن التحول! الثبات حتى مطلع الفجر»! توقفت عند وصف الثابت بالفهم الإيجابي المقصود في الإهداء. هو التزام بالمبادئ، وعدم الحياد عنها. وربما صاحب ذلك مفهوم عدم التلون من أجل المصالح، ومواءمة متغيرات الحياة.

فالثبات في السلوك والهوية، والثبات في القناعات من سمات الشخصية التقليدية (السكونية)، فهل أنا (بوصفي نموذجاً، وليس بصفتي الشخصية) تقليدي إذا كنت أتصف بالثبات على المبادئ؟ طبعا ليس من مهمة صاحب الأسلوبيات الإجابة عن هذا السؤال؛ أعرف أن صاحبي لا يساوي بين الثبات والجمود (والأخير هو ذو الصفة السلبية دون الأول). غير أن الثبات في الدراسات الاجتماعية هو النفور من التجدد والتغير واستقبال المعطيات الجديدة؛ فأين المتغير في ذلك النموذج؟

«اللي ما فيه خير لربعه ما فيه خير للباقين»! هل هذا إطار لثبات هذا النموذج؟ أشعر بأنه متغير في هذا الشأن لصالح الانسجام مع القوانين المرعية وأصول الأشياء، دون تجاوز أي من القوانين أو الأصول لمنفعة «الربع» و»الأقربين».

«ما خلى الأول للتالي شيء»! هل تتواءم فكرة هذا المثل الشعبي مع قناعات النموذج؟ لا أظن نفوره من شيء، مثلما ينفر من تسليم الناس بهذه الحدود الموضوعة سياجاً؛ تمنع الفكر المتجدد من الانطلاق، وتعيق حرية المتأخر في التفكير. وقد حارب كثيراً، وخسر معارك ومواقع وصداقات بسبب قناعته بوجوب انطلاق الإنسان من إيمانه بقدرته أولاً، وقبل كل شيء، ولا ضير بعد ذلك من أن ينظر في تجارب الآخرين.

«احفظ قردك لا يجيك أقرد منه»! صاحبنا لا يؤمن بهذا المثل؛ فهو مغامر يريد تجربة القرود الأخرى، قبل أن يستقر حكمه على أن قرده أفضل مما قد يأتيه. لكن التجارب في هذا المجتمع التقليدي علمته أن يصبر، حتى وإن لم يكن مقتنعاً بعدم التغيير. فالتغيير له اتجاهان؛ ولا بد للمرء أن يجرب من الأمور غير ما عرفه أو وجده أمامه، أو ما جُبل عليه (كما تُلطف صياغات ثقافة الجمود).

والآن إلى مفهوم التغيير: هناك حدود متفاوتة لثقافة التغيير؛ فمنها النزوع نحو تجدد الحياة بأشكال مختلفة، وهذا هو ما تعمله أغلب شعوب الأرض الحية في كل مكان وزمان. بل إن هذا المنحى هو ما أنتج الحضارات البشرية في تاريخ الإنسان. ومنها رفض كل أشكال الوجود السابقة، وبناء علاقات وبنى جديدة، وهو المخاض الذي صنع الثورات الكبرى؛ سواء كانت ثورات سياسية – اجتماعية، أو فكرية – ثقافية. وتجتمع تلك التغيرات في كونها تحولاً جذرياً ناتجاً عن احتقان واحتجاج على الأوضاع التي تسبق حدوثها. كما أن هناك التغيير العبثي الذي لا يتجاوز رغبة المرء في رؤية شيء آخر؛ لا لشيء في جوهر ذلك الشيء المرغوب فيه، أو المرغوب عنه، بل لعامل الملل من التعامل مع النمط نفسه، وهو – في الغالب – موجود لدى الطبقات المرفهة، أو ذوي النظرة السطحية إلى جوانب الحياة ومكوناتها ومقتنيات المرء فيها.

فكل أشكال التغيير مقبولة عند صاحبنا - عدا الأخير منها - وهي في نظره أساس ديمومة الحياة؛ إذ بدوران الأرض حول الشمس، ودورانها حول محورها نستمد عناصر الحياة، التي هي تغير دائم؛ لا نشعر به مباشرة. ولا تثير حفيظته مثل عبارات: «سياساتنا ثابتة»، أو «انطلاقاً من الثوابت...»، لأن الثابت ثابت في وقت حدوثه، وليس في وقت وصفه؛ حتى الأجرام السماوية التي تتجاوز أشخاصنا وعلاقاتنا وصفائنا لا يمكن أن تتصف بالثبات «حتى في مواقعها»!

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة