Culture Magazine Thursday  16/02/2012 G Issue 363
فضاءات
الخميس 24 ,ربيع الاول 1433   العدد  363
 
الربيع العربي بين
«الاختيار العلماني وأسطورة النموذج»
رائف بدوي

 

أستطيع أن أقول بيقين تام على الأقل حتى الآن إنه عندما ترى شعار (رابطة العقلانيين العرب) على كتاب فاعلم بأنه كتاب يستحق القراءة الجادة عدة مرات، فالرابطة مما قدَّمت حتى الآن من إصدارات أثبتت بجدارة لا يشق لها غبار بأنها لا تهتم بالكم قدر اهتمامها بثقل الكتاب ورسالته وعمق الأفكار التي يتحدث عنها.

وعندما نقف حيال كتاب “الاختيار العلماني وأسطورة النموذج” للمفكر المغاربي الكبير: سعيد ناشيد، الصادر عن رابطة العقلانيين العرب بالتعاون مع دار الطليعة ببيروت، سنجد أنه من الكتب القليلة التي تجبرك على إعادة قراءتها عدة مرات، وبتمعن الباحث والفاحص دون ملل أو كلل، ولا أبالغ إن ذهبت لأبعد من ذلك لأقول: إنه أثر على فكرتي عن النموذج العلماني الغربي في شكله الصرف، وجعلني على مشارف هاوية سحيقة من عذابات إعادة كل القراءات والأفكار ذات العلاقة.

كان الكاتب يضع أسئلة افتراضية في تقديمه للكتاب، فراح يسأل نفسه عمن ذا الذي منحه الحق كي يوجِّه قلمه أو يصوّب كلامه نحو نقد “النفاق العلماني” لدى أمم أكثر تحضراً منه ومن أمته؟ وأردف يسأل أيضاً: من هو حتى يجرؤ على انتقاد دول كان الأجدر به أن يتواضع أمام اعتبارها نموذجاً لمستقبل لم يبلغه هو بعد، ويمكنني أن أضيف للكاتب بأن هذا الواقع المنتقد واقعنا لم يتلمس ملامحه حتى الآن إن لم يكن يعيش نقيضه البدائي حتى الآن ونحن في بدايات الألفية الثالثة.

كانت تلك الأسئلة المفترضة عادة ما تكون على لسان جالدي الذات فهنا وبذكاء مفرط استبقهم ناشيد وسألها في مقدمة كتابه، وكان جوابه أو أجوبته بمعنى أدق صارخةً في مجمل الكتاب.

إن ناشيد هنا يراهن على همم وعقول النخب العربية وشبابها، لصياغة وصنع نموذج علماني عربي خالص جديد، لا يشبه أي نموذج غربي ويكون مولوداً شرعي الأبوين لجسد أمته، ويستشهد ناشيد ببناة الحضارات وصنّاع التاريخ، وكيف كانوا يتصرفون دون وجود نماذج جاهزة ومعلبة، حيث إن الثوار الفرنسيين لم يكونوا يبحثون عن أي نموذج لتكراره في ثورتهم، ولو فعلوا ذلك لما استطاعوا صنع النموذج الجمهوري الفرنسي العظيم، كما استشهد بصانعي الدستور الأمريكي والبلاشفة الروس، وكأنه يستشرف الربيع العربي والثورات السياسية - الاجتماعية التي أسقطت اكبر وأعتى الانظمة البوليسية في عالمنا العربي.

في الحقيقة أن يأتي مفكر مهما كان موقعه أو أهميته ليقول أنه لا حل في النموذج العلماني الغربي الصرف، فإنه يفتح بذلك طاقات من الجحيم على نفسه ويضع نفسه عاري الصدر أمام مرمى نيران المقلدين وأصحاب الرؤى التبعية والأبوية. ولكن مهما كان عري صدر ناشيد في نظر هؤلاء إلا أنه كان متمكناً وبجدراة من رسم خارطة طريق جديدة تخرجنا من عنق زجاجة النموذج العلماني المعلب سلفاً.

يقول ناشيد: ولو حاولوا أن يقلدوا لأوجدوا تجارب هزلية أو هزيلة مثلما فعل آخرون كثيرون، تجارب لا ذكر لها في غير موضع الأخبار والعبر.

كل إبداع جديد إلاّ ويبدو في مستهل عهده وكأنه زيغ عن الممكن، وضرب من المحال، لكن العوالم الجديدة لا تولد في العادة إلاّ حيثما يتم خرق مبدأ العادة. هوس النموذج امتداد لصورة الأب لدى الطفل القاصر وتعبير عن النموذج الأعظم والأكمل لدى الشعوب المتأخرة والنخب القاصرة،.

لنترجم هذا الإعلان إلى شعار سياسي واضح، فنقول: ستكون الدولة العلمانية دولة يتيمة، ليس فقط من رعاية الغيب، وإنما ستكون دولة يتيمة من حضن واحتضان كل نموذج.

ثم ماذا؟ الوعي العلماني الأصيل لا يبحث عن أب بديل للعلمانية.

ثم ماذا؟ رفعاً لكل شبهة في عصر “المتشابهات”، فإننا نقول للبهلوان الذي يقدم مشهداً مثيراً في جلد الذات بهدف الإمتاع قليلاً والترويع كثيراً: النموذج الإسلامي ميت ابتداء ولا حاجة لجلد الذات تنكيلاً بالجثة.

العرض ممل، فليسدل الستار ولنناقش القضية في أقصى أبعادها. ثم ماذا عن النموذج الغربي؟ لقد أصبح هذا النموذج الغربي المفترض، جرّاء المناخ الثقافي المهيمن وطبيعة المنحى الاقتصادي الجديد، يهدد مستقبل الحداثة والديمقراطية وقيم التنوير ومبادئ الثورة الفرنسية.

وبدأ ينزاح عن وعود عصر التنوير متجهاً نحو أهداف يمينية، دينية، محافظة، وأحيانا استعمارية.. هذا النموذج الغربي القائم على عقيدة القوّة والتفوق، والذي يعول على خدمة الشعوب الفقيرة للديون الخارجية وعلى تركة التقسيم الاستعماري وعلى رعاية بعض العشائر والعسكر في أقاليم الشرق والجنوب وعلى تركة الحرب الباردة وعشرات الشبكات الدينية التي شكلت ترياقاً ضدّ غواية الشيوعية، هذا النموذج المثقل بأوهام احتكار مفاتيح الثروة وأسرار القوة، أصبح يهدد القيم التي شكلت سحر الغرب على مدى عقود ليست بالقليلة: قيم العقل والمساواة والسلام العالمي وحماية المجال البيئي والعيش المش ترك، وأيضا… وأيضا… وأيضاً… إمكانية خلود النوع البشري.

إنه بات يهدد رخاء المواطنين حتى داخل المجتمعات الغربية.

يهدد وحدة النوع البشري وربما بقاءه أيضاً في زمن لا مكان فيه لسفينة نوح جديدة.

والآن، وقد وضعتَ السوط التي تجلد بها ظهرك فلا تفرك يديك من اليأس، وإليك كشف الأوراق قبل عرض المطارحات: إننا لم نبدأ بعد، ولن نبدأ إلاّ عندما ندرك بأن علينا أن نبدأ ليس من حيث انتهى أشباهنا الآخرون، ولا من حيث بدأ أسلافنا السابقون، وإنما أن نبدأ من حيث يجب أن نبدأ: من جديد.

ولو أن ناشيد كان يعرف بأنه ستكون هناك تحولات جيوسياسية ودراماتيكية وجذرية في منطقة الشرق الأوسط وتحديدا في منطقة العالم العربي “الربيع العربي” لكان قد تمهل قليلاً في نشر هذا الكتاب لأن البداية من جديد التي كان يتحدث عنها ناشيد بدأت بالفعل تكتب سطورها على أيدي التوانسة والمصريين واليمنيين والسوريين والليبيين.

ولكن يحمد له وحده أنه المتنبي الوحيد - نظرياً على الأقل - بتلك الثورات بشكل أو بآخر.

جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة