Culture Magazine Thursday  19/04/2012 G Issue 370
فضاءات
الخميس 27 ,جمادى الاولى 1433   العدد  370
 
أيامٌ بجوار الحبيب:
اللغة العربية في ضيافة الجامعة الإسلامية
د. أشجان هندي

 

في المؤتمر الدولي للغة العربية الذي نظمته الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مؤخراً اجتمع أكثر من ستمائة مشارك ومشاركة من مختلف الدول العربية والإسلامية لبحث شؤون وشجون اللغة العربية في رحاب طيبة الطيبة. الكثير من الأبحاث قدمت بهذا الصدد، والكثير من التوصيات الختامية أُقرّت. وبين البحوث والتوصيات وقاعات المؤتمر وأروقة الفندق دارت الكثير من النقاشات والتساؤلات عن أحوال لغتنا العربية في هذا العصر. تداخلت الآراء وتباينت؛ بين آراء مطمئنة على أن لغتنا العربية لم تزل بخير، وأخرى مرتابة خائفة على مصير لغتنا في عصر العولمة الذي لا نملك فيه نحن أصحاب هذه اللغة الكثير من الإنجازات على عدّة أصعدة ليس أولها العلوم والاختراعات ولا آخرها التكنولوجيا. لم يكن للجدل العقيم، ولا لوجهات النظر المتشنّجة مكان في هذا المؤتمر؛ حيث لفّت سكينة المقام وطمأنينة الأجواء جميع الآراء المختلفة منها والمتفقة؛ فالجميع في طيبة الطيبة ينعمون بجوار الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام. والجامعة الإسلامية وعلى رأسها معالي مديرها تبذل جهوداً استثنائية في إشاعة جو من الود الراقي والحميمية الإنسانية التي لا يرقى العلم وأصحابه إلا بها .فقد نجحت الجامعة نجاحاً كبيراً - وبشهادة المشاركين- في تنظيم المؤتمر والعمل على راحة الضيوف برحابة صدر وطيبة نفس وابتسامة لا تفارق الوجوه.

تعددت الأبحاث المقدّمة وتفاوتت من حيث جودتها وسعيها إلى تقديم الجديد ومشاكسة قضايا ملحّة تتعلق بلغتنا الأم. فمنها ما أثار قضايا عصرية ومهمة تتعلق بوضع اللغة العربية اليوم. ومنها ما طرح أسئلة جوهرية، ومنها ما قدّم حلولا تستشرف الغد وتعالج قضايا اللغة الأم في ظل عالم يتغيّر كل يوم وتتسارع فيه خطى المعلومة تسارع البرق الخاطف. فالأبحاث الجيدة كانت غنيّة بجودتها ونوعيّتها ووصولها إلى الهدف وهذه من المزايا التي تُحسب لهذا المؤتمر. من جهةٍ أخرى فقد كانت بعض الأبحاث المقدّمة مجرّد خطب إنشائيّة بليغة، وتكرار لما قيل منذ عام الفيل. ومنها ما لوّح بقضايا قد لا تتجاوز موضوع الأخطاء اللغوية الشائعة! وهذا مما هو عصيٌّ على الفهم إذ لا يكفي أن يسبق حرف (الدال) أي بحث ليكون جيّداً! ولعلّ مؤتمراتنا التي تقام في المملكة ستلتفت أكثر في المستقبل لجودة البحث المقدّم أكثر من أهميّة الاسم الذي يقدّمه. وإن أخذنا في الاعتبار أن هذا الأمر يحدث في أغلب المؤتمرات في الداخل والخارج اتضح أن ما سبق يشير إلى أن هذا المؤتمر قد منح بذلك الفرصة لعرض الكثير من الآراء على قوتها أو ضعفها. فظهرت نقاط القوة والضعف والاتفاق والاختلاف كما ينبغي أن يكون عليه الحال في عملية المصارحة والكشف عن المشكلات بغية حلّها، وإظهار قيمة الحَسَن وحاجة المجتمع إلى مثله في البحوث العلميّة أو سواها.

في كل جلسة من جلسات هذا المؤتمر كانت الكثير من التعليقات والمداخلات المميزة تسجّل إضافة نوعيّة وإعلاناً صريحاً عن حاجتنا الماسة اليوم إلى الالتفات بوعي أكبر إلى قضايا لغتنا العربية ليس خوفاً على ضياعها والقرآن الكريم حافظاً لها بإذن الله، ولكن طلباً للمزيد من مناقشة قضاياها داخل العصر الذي نعيشه اليوم لا خارجه. إن العصر الذي نعيشه اليوم عصر منافسة وعمل وإثبات جدارة وأحقيّة في كل المجالات، ومنها اللغة. ولعل من الأجدى أن نبحث في كيفية وآليّة جعل لغتنا قادرة على المنافسة اليوم بدلاً من التباكي على أمجاد الماضي والحديث عن آخر يتربّص بنا في كل شيء. فلم يعد من المجدي أن نوهم أنفسنا في كل مرة بأننا (نحن) الأذكى والأقوى والأهم، وربما علينا أن نسأل أنفسنا بشجاعة أكبر: ماذا فعلنا بهذه ال (نحن) الكبيرة جداً؟. إن هذه النبرة الاستعلائية التي تخالطها - بشكل أو بآخر- طمأنينة الغافل تتكسر اليوم على صخرة واقع العصر الذي لم يعد فيه مجالاً إلا لمن يريد أن يعمل وينافس ويثبت جدارة وأحقيّة في أي مجال من المجالات، بدءاً من السياسة والاقتصاد والعلوم والثقافة والفكر وليس انتهاء باللغة التي تُشكّل وعاءً لكل ما سبق؛ فاللغة لا تتطور وتزدهر وتتجدد إلا بمقدار ما ننجزه ونملأها به من أفكار وحضارة وعلوم ومعارف وثقافة وغيره. فلا يمكن أن نعيش خارج السياق الفكري والمعرفي والعلمي وغيره ثم نطلب من لغتنا أن تتطور وتتجدد وتكون صالحة لاستيعاب كل ذلك. فتطور اللغة لا يعني عزلها وعزل أنفسنا معها؛ لأننا بهذه الطريقة نقتلها ببساطة. كما أنه لا يعني الاطمئنان الكامل والركون إلى ما أنجزه أسلافنا والاكتفاء به دون مطالبة أنفسنا بوجوب إكمالنا لمسيرتهم. ففي هذا تقصير كبير وتنصّل من المسئولية وركون إلى المنجز الذي سبق تأسيسه على يد غيرنا لا على يدنا نحن. في الوقت الذي نرفع فيه مطالباتنا لهذا المنجز بالصمود والاستمرارية دون أن نرفده نحن أهل هذا العصر بجديد يكمل سلسلة البناء الأزليّة التي ينبغي أن يضع فيها أصحاب كل عصر من العصور إنجازاتهم وبصمتهم الخاصة.

إن الإخلاص لهويتنا ولغتنا وثقافتنا لا يعني محاربة ومهاجمة كل ما هو جديد، كما لا يعني في الوقت ذاته معاداة وهدم كل ما هو قديم. بل هو أن نعترف بتقصيرنا في حق أنفسنا في المقام الأول، وأن نستكمل بناء ما لدينا في ظل عالم كبير ومتغيّر. وهو أن نضع بصمتنا الثقافية والمعرفية والعلمية الخاصة لتزدهر لغتنا بنا فنحن لا نبني على أنقاض الفراغ، بل على ركائز ثابتة وقوية وأصيلة منبعها قوة لغتنا وجمالها وقدرتها على المنافسة. واللغة تحيى وتتطور حين يتطور المجتمع الذي يستخدمها؛ فيُنتج في الفكر والأدب ويصنع ويخترع في الطب والتكنولوجيا وغيرها من علوم العصر ومعارفه، ويُسمّي ما صنع وأنتج وينشره في الآفاق. وإن اعترافنا بالتقصير لا يعني التوقّف عن الدفع إلى الأمام أو فقدان الثقة بقدراتنا. فنحن نبني على إرث تاريخي كبير تتعدد فيه المشارب الثقافية وتتنوع وما يقيم ذلك التنوّع ويحفظ ذلك التعدد هو نهج سبيل الاختلاف البنّاء المثمر لا الخلاف المُدمّر. ومن هنا تظهر حاجتنا إلى السعي إلى منهج ثقافي متوازن ومعتدل يتمسك بأفضل ما في الماضي ويحرص عليه في الوقت الذي يستفيد فيه من كل ما هو مفيد ومواكب للعصر من معطيات الحاضر. فنحن أمة بناء لا أمة هدم نتبع دين سماحة وتسامح لا دين عداء وتعدّي واستعداء وحجر على أفكار الآخر ومصادرة لحقه في الحياة، وفي التعبير، وفي بناء هذا الوطن الذي هو جزء لا يتجزأ من المنظومة العربية الكبيرة. هذا الوطن الذي يجمعنا بشماله وجنوبه وشرقه وغربه ووسطه عقده بكل تنوعنا واختلافنا تحت راية واحدة وهوية واحدة.

في طيبة الطيبة وبجوار قبر ساكنها عليه أفضل الصلاة والسلام أثيرت الكثير من القضايا المفصلية السابقة؛ فكان المكان منطلقاً مواتياً للنقاش الهادئ والهادف، وغمرت طيبة الطيبة ضيوفها بأمطارِ رحمةٍ وسلامٍ طيّبة مرحبةً بهم؛ فاكتمل عقد الهُدى والندى والجمال.

تحية شكر خاصة للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لإقامتها لهذا المؤتمر، وامتنان كبير لكل الجهود التي بذلت ولكل من خلفها في لجان التخطيط والتنظيم والاستقبال وعلى رأسهم رجل إدارة فذ هو معالي مدير الجامعة الدكتور محمد بن سعيد العقلا الذي كلما شكره أحد الضيوف على شيء قال: هذا جهد الأخوان والأخوات في كل اللجان وهذا عملهم. وهذا بالتأكيد ما لا يقوله إلا القائد الناجح. سألت معاليه وقد كان إلى جواره نفرٌ من الضيوف يوم الخميس (في اليوم التالي لانتهاء المؤتمر): تبقون هنا بصحبة الضيوف يوم إجازتكم وبعد انتهاء المؤتمر؟! فابتسم قائلاً: إن توديع الضيوف بما يليق بهم من حفاوة وتكريم لا يقل أهميةً عن استقبالهم. غادرت طيبة الطيبة تزفني الطمأنينة وعطر السكينة وطيب الورد وذكريات كثيرة خبأتها في سلال التمر والنعناع والدوش والحبق المديني. غادرت أرض طيبة الطيبة والطريق يدندن: « الأرض بتتكلم عربي».

جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة