Culture Magazine Thursday  19/04/2012 G Issue 370
قراءات
الخميس 27 ,جمادى الاولى 1433   العدد  370
 
(حُرْفَةُ الأدب.. على المَحَكّ)
عبدالإله بن موسى بن سوداء

 

كثيراً ما أتحيّر في صواب مقولة يرددها بعض الباحثين ولا أجزمُ بخطئها، وهي: (خطأٌ مشهور خير من صواب مهجور)، أجد هذه الحيرة بالذات حين أُريدُ نُطقَ أو كتابةَ تركيب عربي صحيح، ثم أتذكر هيمنةَ تركيبه المحدث المختَلَف في صحته أو غير الصحيح، فأتقهقر عن ذلك وأثبته أحيانا باللفظ الشائع دون لفظه الصحيح خشية مخالفة (المشهور)! وأقرب مثال إلى ذهني عبارة: (تخرّج الطالبُ من الجامعة) فالتركيب العربي السليم هو: (تخرّج الطالبُ في الجامعة) أي تعلّم وتدرب فيها، فهو خِرِّيجٌ أي متعلمٌ ومتدرب، ولا يلزم أن يكون قد أنهى دراسته فيها، لكن الشائع اليوم جَعْلُ الفعل (تخرّج) يتعدى ب(من) وتحريف المعنى إلى أن يكون المقصود إنهاءَ الطالب دراستَه في الجامعة وخروجه منها! وشبيه بهذه الجملة جملةُ: (فلانٌ أَدْرَكَتْهُ حرفةُ الأدب) فإن أغلب المعاصرين يضبطون كلمة (حرفة) بكسر الحاء على أن مدلولها هو المهنة والصنعة التي يتكسب بها الإنسان، والصواب أن تُضبطَ في هذا التركيب بضم الحاء على أن مدلولها (الحرمان أو الشؤم أو الشخص المنقوص الحظ أو الفقير...) أي أن مدلولها معنوي يصف حالة من الحالات المعنوية، بينما (حِرفة) بكسر الحاء تدل على أمر حسي وهو المهنة والصنعة، كما أنها في أحيان قليلة قد تدل على الحرمان على ما ذُكر في بعض المعاجم.

ووجه الخطأ في نطقهم ل(حرفة) بكسر الحاء وإرادتهم بذلك معنى المهنة؛ هو أن السياق الذي وردت فيه الكلمة لا يُفيد ما قصدوه، فإن (الحرفة) بمعنى المهنة لا تُدْرِكُ أحداً من الناس بل الناس يطلبونها لتكون مصدرَ رزقهم، ولا معنى لكون المهنة تَطْلُبُ إنساناً ما !! ثم إن الاشتغال بعلوم الأدب ليس مهنةً حقيقيةً بقدر ما هو موهبة فنية واكتساب معرفي يُدفع إليه الإنسان بالفطرة ليُشبعَ نَهماً في روحه، فإطلاقُ لفظ المهنة عليه هو من باب التجوّز لا غير، وبهذا يُفَسَّرُ ما دل على ذلك من النماذج التراثية.

ولا يكاد الباحثُ في التراث القديم يجد القدماءَ من المؤلفين والشعراء أطلقوا تركيب (حرفة الأدب) وأرادوا به مجرد المهنة والصنعة، كما أن الباحث يُعييه أن يجد القدماء خالفوا هذا التركيب وهو: (فلان أدركته حُرفةُ الأدب)، وأعني بالمخالفة في المعنى وليس المبنى، فهم يجعلون (حُرفة) فاعلاً للفعل (أَدرَكَ)، وهم يُدركون معنى هذا التركيب جيداً أقصد (حرفة الأدب)، فهم يريدون به الشؤم والتعاسة المصاحبة للمشتغل بعلوم الشعر والأدب بعامة وأن ذلك يفضي بصاحبه إلى الشرور، وهذه الشرور ليست بالضرورة الفقر والفاقة التي يشيع لدى المعاصرين تفسير هذه المقولة بها، بل تعني سوء الحظ ونقصه، ودليل ذلك أنه لما قُتل عبدالله بن المعتز الذي بويع له بالخلافة سنة 296ه ولم يلبث فيها غير يوم وليلة ؛ قال الناس: (لم يكن به بأس ولكن أدركته حُرفةُ الأدب) كما ينقل ذلك أبو هلال العسكري في كتابه «الأوائل»، والشاهد من ذلك أن ابن المعتز أديبٌ مُترفٌ عاش مُتَطَرِّياً حتى مقتله! وعليه ؛ فليست حرفة الأدب بحقه إلا الشؤم ونقص الحظ والحرمان من الخير بعامة، إذ لم يهنأ بالخلافة إلا يسيرا.

ولعل في مقولة الناس هذه عن ابن المعتز رداً على كثير من الباحثين المعاصرين الذين يفهمون من العبارة الذائعة فهمين خاطئين، الأول: أنها تعني -بالضرورة- الفقرَ وضيقَ ذات اليد، الثاني: أن (حرفة) في ذات العبارة تعني مهنة وصنعة !! ولا أدري كيف جاز لهم أن يفهموا معنى الفقر والفاقة من هذه العبارة مع أنهم يُريدون ب(حرفة) معنى المهنة والصنعة؟!

أعتقد أن فهم القدماء للعبارة أدق من فهم بعض المعاصرين، فقد نقل الثعالبيّ في كتابه «تحسين القبيح وتقبيح الحسن» عن بعضهم قولَه: (حِرْفةُ الأدب حُرْفةٌ لا يسلم منها أديب) وكلمة «حرفة» وردت مرتين في الأولى مكسورة الحاء بمعنى مهنة وفي الثانية مضمومة بمعنى حرمان وتعاسة! وهذا يدل على أن المعنيين متباينان. كما نَقَلَ أيضا مقولةً أخرى تُثبتُ أن (حُرفة) تعني الشؤمَ وسوءَ الحظ، وهي: (أيُّ أديبٍ لم تدركه حُرفةُ الأدب؟!) فلو كانت مهنةُ الأدب وصنعته هي التي تُدْرِكُ المرءَ لما كان لوصف الأديب بالأديب في هذه العبارة أيّ معنى!!

ولابد أن أشير هنا إلى أن ابن منظور(ت711ه) في «لسان العرب» قد ضبط (حرفة) في قول القائل: (فلانٌ أدركته حرفة الأدب) بكسر الحاء، لكن الصاغاني(ت 650ه) في «العُباب الزاخر» ضبطها بضم الحاء على أنها مشتقةٌ من المُحَارَفُ وهو: (الشخص الذي لا يُصيبُ خيراً من وجه توجه له، والمصدر الحِراف) وهذا الاختلاف بين ابن منظور والصاغاني يدل على أن هذه الكلمة مُشكلةٌ مُلتبسة! ولا أدل على ذلك من قول قطرب(ت206ه): (والحُرفة عند الناس؛ الفقر وقلة الكسب، وليست من كلام العرب، إنما تقولها العامة) وقطرب في قوله هذا محجوجٌ بما ورد في كتب مع اجم اللغة، وبما جاء عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) فالمحروم عنده هو المُحارَف، والفقهاء قديما تحدّثوا عن الرجل المُحَارَف وهو المحروم من الرزق إذا طَلَبَه، أو غير الموفَّق في صنعته أو تجارته فهو دائم الخسارة،كما أن (حرفة) قد مرت بأطوار زمنية من حيث دلالتُها، فأول من أطلقها واشتهرت عنه؛ الخليل الفراهيدي(ت174ه) في قوله: (حِرفةُ الأدب آفة الأدباء) وهو يعني ب(حرفة) معنى المهنة والتكسبِ بتعليم الناشئة وغيرهم كافةَ العلوم أياً كانت شعراً أو قصصاً أو سيرةً...،وذلك بحسب مفهوم كلمة (أدب وأدباء) في زمن الخليل، ولهذا يجوز في عبارة الخليل كَسْرُ حاء (حرفة)، لكنها بضم الحاء مع كونها مضافةً إلى كلمة (الأدب) غَلَبَتْ على أدباء القرن الثالث وما تلاه، فصارت تدل على معنى التعيير والنبز للأدباء الذين يتكسبون بشعرهم ويَمدحون به الكبراءَ ثم يرجعون صفر اليدين.

وليس صحيحاً ما نسبه الرافعي في كتابه «تاريخ آداب العرب» إلى ابن بسام البغدادي (ت303هـ) أنه أول من نقل دلالة تركيب (حرفة الأدب) إلى معنى النبز والتعيير وذلك في رثائه لعبدالله بن المعتز، إذ قال:

(ما فيه لوٌ ولا ليتٌ فتُنقِصه لكنما أدركته حُرفةُ الأدب)

فقد سبق أبو تمام إلى ذلك في قوله:

(إذا قَصَدْتُ لشأوٍ خِلْتُ أنيَ قد

أدركته، أدركتني حُرفة الأدب)

كما ليس صحيحاً نسبته كلمةَ (حرفة) بمعنى الفقر والحرمان والشؤم إلى لغة العامة، فقد أسلفتُ أنها عربيةٌ صحيحة،لاسيما وقد نُقِلَتْ بهذا المعنى عن أبي عبيدة معمر بن المثنى(ت209هـ) وهو لغويٌ متقدمٌ معاصرٌ للخليل، إذ قال: (قال لي أبي: إذا كتبتَ كتاباً فالْحَنْ فيه، فإن الصوابَ حُرْفَةٌ-أي حرمان- والخطأ نُجْحٌ).

ومهما يكن من إشكال في هذه العبارة من الناحية اللغوية سواء في الضبط أو في المدلول؛ فإن الإشكال الأكبر في ظني هو الانتقاء من قبل بعض الباحثين قديماً وحديثاً، وأعني بالانتقاء جَعْلَ الاشتغال بالأدب طريقاً للفقر والمسغبة!! وهنا تساؤل: هل الأدب وحده هو الذي يُفضي إلى ذلك؟! ألم نقرأ في التراث -مثلاً- أن (الفقر تحت عمائم الفقهاء)؟ إذاً؛ فلماذا هذا التحقير غير المقصود والمقصود أحيانا ؟! ولماذا هذا الانتقاء بحق الأدباء؟ ومن هنا جاز لبعضهم أن يُورد قصةً تَنَدُّريّة تُحكى عن أبي الحسين يحيى المعروف ب»الجزار المصري» (ت672) وكان جزّاراً فبدا له أن (يحترف) الشعرَ لينال الجوائز والأَعْطِيات، لكنه رجع بالخيبة والخسران،إذ كانت بضاعة الشعر في عصره رخيصة!، فما كان منه إلا أن عاد مرة أخرى إلى الجزارة ! وقال في ذلك:

(لا تَعِبْنِي بصَنْعَةِ القصّابِ فهي أذكى من صنعة الآدابِ)

(كان فَضْلي على الكِلاب فمذ صِرتُ أديباً رجوتُ فضْلَ الكِلابِ)

ألهذا الحد صارت (حرفة الأدب) شؤماً على رزق صاحبها، تضطره إلى البحث عن بقايا طعام الكلاب؟!

لاشك أن المتأمل في تاريخ الأدب يجد كمّاً كبيرا من الأدباء في مختلِف العصور عاشوا هانئين في رزق وفير وبحبوحة من العيش، وتقلبوا في نعمة سابغة، وماتوا دافئين على فُرُشهم!! فلماذا إذاً (لا يُقال) بحق هؤلاء: (أَدْرَكَتْهم بَرَكَةُ الأدب)!! ولماذا (يُقال) حين يَرثي راثٍ أديباً ما، قَسَتْ عليه ظروفُ الحياة، ومات تحت نير الإعواز فكان من حقه على الراثي -يا للأسف- أن يُكَفّنَ بهذه العبارة القاسية على الأدب والمشتغلين به، فيُقال: (فلان... أَدْرَكَتْهُ حُرفةُ الأدب) !!

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة