Culture Magazine Thursday  20/12/2012 G Issue 390
فضاءات
الخميس 7 ,صفر 1434   العدد  390
 
بعد أربعين عاماً من التغيب
علي فايع الألمعي

 

كان يعشق الإذاعة الصباحيّة والمنابر الأدبية، ويهوى القراءة، لكنّ وشاية ساذجة قبل أربعين عاماً تقريباً أودعته السجن عاماً كاملاً، وحكمت عليه فيما بعد بالحرمان من التعليم!

لم يتجاوز عمره وقتها خمسة عشر عاماً، ومع ذلك لم ييأس، ظلّ يلازم كتابه، بعد أن تخلّى عن قلمه وخطيئته، بعد أن اختطفت الوشاية القرويّة من عمره حماسته، وعنفوان شبابه!

في مجلس ثقافي عاد (حسن) ابن الستين عاماً إلى الواجهة الثقافية في منطقته بعد أن كان متوارياً، تحدث (حسن أبو عابد) بعد الغياب عن رؤيته للحياة والناس وأحداث العالم اليوم، لم يكن السجن يشغل باله، أو يستأثر بحديثه في ذلك اللقاء، كان حديثه مفعماً بالحب واللهفة والشوق والوطنية والوعي، لم يخل حديثه من وجع الحياة والنّاس، لكنّ تفاؤله كان أكبر!

كان (حسن) واحداً من الطلاّب المجتهدين في معهد (أبها العلمي) قبل أربعين عاماً، يدرس في الصف الثالث المتوسّط، لكنّه لم يكن يشبه بعض طلابنا اليوم، فقد كان مجادلاً كبيراً في كلّ شيء لا يتفق ورؤيته التي اكتسبها بفعل القراءة ومخالطة المجتهدين في الحياة أمثاله! يقدّر (حسن) أنّه أخطأ حين اعتقد أن بإمكانه أن يقول ما يشاء، ويؤمن بما يشاء، وينظر للحياة والناس كما يشاء،فقد كان إيمانه ذاك سبباً في حرمانه من الدراسة، والزجّ به في السجن سنة كاملة وهو (الطفل) كما يقول!

لم يكن يدرك أنّ كلّ كلمة كانت تخرج من بين فكيه محاسب عليها، فما زال (حسن) يروي قصّته وفي نفسه شيء من آثار تلك الحادثة المؤسفة، يعتقد (حسن) أنّ جرأته أمام أحد أساتذته في لحظة امتعاض ما أوقعته في مأزق الفهم والتحريف، فقد قال لأحد أساتذته إنّ التاريخ لا يعدو أن يكون أساطير!

لم يدرك (حسن) أنّ وراء كلمته تلك ألف سؤال وسؤال، وأمامه ألف مخترق ومختلق، لم يرضِ رأيه الصادم ذاك بعض المعنيين بالتاريخ في معهده العلمي، فحولوا رأيه إلى تهمة، ومقولته إلى جرم دفع ثمنه سنة كاملة من عمره في السجن..!

حين تحدث ( حسن) عن حياته ليلة البارحة في مجلس ألمع الثقافي لم يبد حاقداً على أحد، لكنه بدا أكثر وعياً من خصومه، فقد أدرك منذ زمن بعيد أن إيمانه لا يقبل المزايدة وأنّ وطنيته لا ترضى أن يقدح فيها زائد أو ناقص، خرج (حسن) بعد عام إلى الحياة، فأدرك أنّ السّعادة لا تأتي إلاّ بالإيمان الحقّ، ولا تقبل غير الصدق، لكنّها تخاف الباطل، وتواجهه حين أدرك أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن لصيبيه، فالحياة محطّة عبور تقف هنيهات وترحل!

من المواقف المؤلمة في حياة (حسن) أنّه لم يستطع بعد عام بؤسه أن يكمل دراسته،بسبب إجراءات لم تنته، وتعقيدات كانت تُبنى على فرضيّات لم تحدث، ولم تثبت، فكان حرمانه أولى بالنسبة لهم من تمكينه، وشقاؤه مقدماً لديهم على سعادته!

في حديث (حسن) منطق جميل لم تنتجه شهادة جامعيّة، ولا وجاهة اجتماعية اكتسبها بالحضور أو المال، لكنّه منطق أفرزته القراءة المتنوّعة، والعقل المتسائل والمحتجّ، فقد كان قارئاً نهماً، ومتسائلاً قلقاً، يسعد كثيراً بالحوارات التي لا تنتهي برأي قاطع، ومنطق يلجأ إليه كلما أراد تبرير موقف سابق أو رؤية لاحقة، ما زال (حسن) لا يحبّ التاريخ والحفظ فهو يعترف أنه لا يحب التاريخ،لأنه يكره أن يكون حافظة، ويكره أن يكون أسيراً لنصّ عابر أو حدث منقول!

في حياة (حسن أبو عابد) حكايات لا تنتهي، فقد كان يقطع مئات الكيلومترات من قريته التي كانت بعيدة عن التنمية،ليشتري جريدة (الشرق الأوسط) والتي كان بعض الناس في زمنه ينعتونها بخضراء الدّمن!

يعترف أنّه مازال قارئاً جيداً، لكنّه لا يملك في بيته مكتبة خاصّة، ولا كتاباً،لكنه يقرأ مع أصدقائه وأقاربه في كلّ فنّ، ويعيد تلك الأشياء إلى أهلها!

اليوم يكتفي حسن (المعاق في إحدى قدميه منذ خُلِقَ) من الحياة ببقالة صغيرة في محافظته يبيع فيها الخضروات والفواكه، ويتابع بشكل لافت أخبار العالم وأحداثه، ويعيد إفراز تلك المتابعات اليوميّة عن طريق الكتابة في المواقع والمنتديات، والسجال بحوارات وردود لا تنتهي في تويتر، لكنه مازال مؤمناً إلى اليوم أن هناك من أحسن إليه بظلمه له، فقد نصره الله بعد أن خذل خصومه،وفتح عليه في رزقه بعد أن أمسك على غيره!

- أبها

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة