Culture Magazine Thursday  22/11/2012 G Issue 386
فضاءات
الخميس 8 ,محرم 1434   العدد  386
 
ثقافة ضدّ ثقافة.. مفاهيم ضدّ مفاهيم
ياسر حجازي

 

الواقعُ الفعليُّ مُوجدُ المفاهيم ذات النفعيّة والفاعليّة؛ ولأنّ الواقع يحتاج إلى ناقلٍ، وكلّ ناقلٍ يحمل أجندته لذلك فإنّ الاختلافات التشريعيّة حولها ضرورة إيجابيّة وواقعيّة، وعلى الرغم من تعقيدات الاتفاق التشريعي إلاّ أنّها تبقى مفاهيم ذات صلاحيّة، وتبقى تمثيلاً للواقع بغاياته وتعدّد أجندات ناقليه-الأحياء.

المثقّفون الجدد جزء من الجمهور الجديد -ناشطو شبكات النت- وتأتي ممارساتهم أنّهم يختصرون ويضغطون تجارب وأفكار من سبقوهم، ويطرحون بدورهم مفهوماً جديداً للثقافة ينقلها من ردّة الفعل إلى الفعل بتفعيل دورها السياسيّ والتأثير على الفرد والدولة والمجتمع الافتراضيّ، فإن كانت الرقابة تقوِّض وظيفة الإعلام فإنّ (الواقع الفضائي) يجعل لكّل ناشط منبره؛ وهؤلاء الأفراد الذين يميّزون الجمهور الجديد: بينهم مَن يسوّق لأعراف المجتمع، وآخرون خارجون عن قيوده باتّجاه مناقشة تشريعات الدولة دون وساطة أو وصاية المجتمع.

ولطالما تساءل العديد من المراقبين السياسيّين والثقافيّين -تحت تأثير إعلامٍ إكليروسيّ إسلامويٍّ- عن أسباب غياب (المثقّف العربيّ) عن ثورات الربيع العربي؟ فإنّ البحث في التحوّلات والتغيّرات الثقافيّة والحياتيّة التي طرأت على البلدان العربيّة وأفرادها -بدءاً من النهضة المتعثّرة حتّى ظهور البوعزيزي محترقاً على الفضائيّات والنت- يقدّم رؤية حول تساؤل الغياب، الذي يصوّره إعلام الجزيرة الإخوانيّة والعربيّة المحافظة وغيرهما كأنّه حقيقة لا جدال فيها، حينما يسوّق للمحافظين والإسلاموييّن على أنّهم قدّموا أنفسهم قرباناً للتغيير دون مثقّفي ومفكّري العرب، الذين تمارسوا بحقّهم تعمية وتضليلاً لا يشكّ عاقلٌ بمقاصدها السياسيّة المؤدلجة لمصلحة الإسلام السياسيّ كمعارضة واهية لا تقف على قدميها ولا تصمد أمام الحكومات القائمة. إذّاك وأمام التعمية والتضليل فإنّ رصد التحوّلات والتغييرات كفيلٌ بكشف علاقة العقد الاجتماعيّ الافتراضيّ بالثورات، ومدى دور مثقّفي العرب القدامى والمعاصرين؛ حيث ما زلنا نبحث عن العلاقة بين الثورة وتغيير العقد الاجتماعيّ، إذ يبيّن البحث في مسألة الثورة أنّ العقد الاجتماعي: (أ) إمّا أن يكون مسؤولاً عن قيام الثورة بحيث أنّه قد تغيّر افتراضيّاً ممّا أنتج هوّة بين الأفراد والطبقة السياسيّة ضغطت باتّجاه التغيير الاضطراريّ حينما تعطّل التغيير التلقائيّ؛ لذلك فإنّ تمثيل العسكر العربي للسلطات التنفيذيّة والتشريعيّة والسيطرة على السلطة القضائيّة في حقبة التحرير من الاحتلال ارتكز في قوامته السياسيّة على (عقد) شرعن ذاك التمثيل الإكراهي أو الطواعي، وهو العقد الذي لم يعد يستوعب التحوّلات والتغيّيرات الثقافيّة. (ب) أو أنّ الثورة تمهّد لتغيير العقد الاجتماعيّ عبر تشريعات تمكّن التغيير وعبر تأهيل تعليمي لأفراد العقد؛ فإلى أيّ مدى يمكن الاطمئنان إلى أنّ المجتمعات العربيّة طرأ عليها تحوّلات أو تغييرات ثقافيّة فكرية حتّى طفحت كوارث طغيان الاستبداد بتعطيل التغيير التلقائيّ، بحيث إنّ أفراد المجتمع يتغيّرون بينما نظامهم السياسي يعاني الجمود! وهو ما قد ينتج تغييراً عبر آليّة الثورة! وإلى أيّ مدى نكون على صواب إن افترضنا أنّ أفراد المجتمعات العربيّة لم يطرأ عليهم أيّ تغييرات أو تحوّلات ثقافيّة وفكريّة وأنّهم يعانون جموداً كأنظمتهم السياسيّة؟ وفي مثل هذه الحالات يحتمل أن يكون التغيير عبر انقلاب عسكريّ، ولربّما تعرّضت هكذا دول إلى احتلال عسكريّ أو انقسامٍ كما هو حال: (العراق، السودان، ليبيا)؛ وما يمكن رصده وملاحظته في الربيع العربيّ (ويحتاج إلى دراسة مستقلّة) أنّ الدول التي لم تهجّر مثقّفيها كمصر وتونس واليمن جنحت في ثوراتها للسلميّة ممّا يُبدي ملمحاً جديداً في الجمهور فرضته التحوّلات الثقافيّة التي طرأت على شعوب هذه الدول، وهو ما يرجّح أن العقد الاجتماعيّ الافتراضيّ تغيّر بينما بقيت الأنظمة جامدة، أمّا في دول العراق والسودان وليبيا وسوريّا فإنّها مارست بحقّ مثقّفيها هجرة طوعا وكرهاً ممّا أظهر تأخّر مفهوم الجمهور الجديد فيها، وهذا يفسّر الانقسام والميل إلى العنف والدم ومعالجة الاستبداد والطغيان بالاستبداد والطغيان. أو كما قال الشاعر مظفّر النوّاب: (سجّانٌ يمسك سجّانْ).

نعود إلى سؤال: (غياب المثقّف عن الربيع العربي) ونلاحظ أنّ هذا التساؤل يتجاوز مسألة هجرة المثقّفين العرب خارج بلادهم، كما أنّه يتعامل مع الربيع العربي كحالة متشابهة واحدة -وإنّ كان ثمّة تشابه- إلاّ أنّ هناك فارق كبير لا بدّ أن يكون عنواناً لبحث بين: (الربيع العربي السلميّ، والربيع العربيّ المسلّح)، ولدى تفكيك تساؤل الغياب نجده يحمل في داخله مجموعة افتراضات لا تصمد أمام الوقائع والحقائق، فكأنّ السائل يستسلم للظنون التالية:

(أ) الظنّ أنّ م ا يحدث في بلاد الربيع العربيّ (السلميّة والمسلّحة) يستحقّ أن يكون للمثقّف دوراً فيه، وأنّ المثقّف لم يكن عاملاً أو مؤثّراً، وفي ذلك خلط واضح بين مثقّف التنظير ومثقّف التغيير، واستسلام لما يسوّقه الإعلام الإكليروسيّ؛ إذاً، مَن هؤلاء الذين جابوا شوارع تونس واحتلّوا ميادين مصر وساحات اليمن؟! أليسوا ممثّلين عن ثقافة الفعل! فأيّ حجج تقصي (الثقافة -ومابعد الثقافة) عن المدوّنين الذين لهم دورهم في الثورات: من ناشطين وحقوقيين وشعراء ومغنيين وفنّانين ورسّامين وأكاديميّين وغيرهم؟!.

(ب) الظنّ بأنّ جيل النت لا يُعدّ مثقّفاً؛ وهو الذي يتحمّل أعباء ومسؤوليّة ما يحدث، وفي الوقائع أنّه يطوّر مفهوم المثقّف من التنظير كردّة فعل إلى التغيير كفعل، من الثقافي إلى السياثقافي، من الفرديّة التابعة اجتماعيّاً إلى الفرديّة الذكيّة؛ وتأتي أهميّة المفاهيم الواقعيّة أنّها تَحدث واقعاً ماديّاً ثمّ تُلحق بالفكر تنظيراً، لذلك فإنّ المادّة العربيّة المتوفّرة اليوم على أرض الوقائع والحقائق مادّةٌ خصبةٌ لاستبدال المفاهيم التنظيريّة بمفاهيم حيّة.

(ج) الظنّ بأنّ ثورات الربيع العربي طفرة طوريّة معرفيّة وثورة أخلاقيّة حداثيّة، وأنّها باتّجاه المدنيّة والحضارة العالميّة ولسوف تنقل العرب من التبعيّة إلى السيادة. وهذا الظنّ إن لم نطعن به فنحن لا نستسلم لمسوّغاته، ليس تشاؤماً إنّما لشحّ المعطيات، ولعلّ أسباب ظنّهم ناجم عن الخلط بين تغيير النظام السياسي وتغيير العقد الاجتماعي، فإن كان الأوّل يتمّ عبر الإطاحة برأس النظام وتأسيس دستور جديد، فإنّ التغيير الاجتماعيّ لا يتحقّق -فكراً وتنفيذاً- بمجرّد تعديلات دستوريّة إنّما يحتاج إلى تداول زمنيّ ينشر التغيير والتأهيل إلى عقد اجتماعيّ تتّفق الأكثريّة الفرديّة عليه.

(د) الظنّ بأنّ الثورةَ طفرةٌ ونبتةٌ غريبةٌ في التاريخ العربي المعاصر، ولا يضنى البحث فالجماهير العربيّة في أقلّ من مئة عامٍ صنعت ثلاث ثورات كبرى -بغض النظر عن غاياتها ودلالاتها- لكنّ فعل التغيير الثوري لم يكن يغيب عنها، وإن كانت ثوراتها مبتورة الإنجاز الطويل الأمد: (شبه ثورات وعصيان ضدّ العثمانيّين، ثورات تحرير ضد الاستعمار، ثورات شعبيّة ضد العسكر)؛ فكيف يمكن تجاوز أنّ طروحات مثقّفي ومفكّري العرب -عبر مئة سنة مضت ولم ينقضِ أثرها وفعلها- لم تؤثّر على مثقفي النت وجمهوره والجيل المعاصر، إذ يتداولونها بحريّة ويمثّلون روحها نقلاً من عالمها التنظيريّ إلى عالمها الواقعيّ. وكيف نقصي الفكر والثقافة عمّا آلت إليه التحوّلات الثقافيّة والاجتماعيّة؟ فإلى مَنْ تُعْزى تحوّلات الشعب في الربيع السلمي والتي فصلته عن نظامه السياسيّ المتجمّد حتّى بدا الأخير سلطة احتلال، نظراً لحلول التغيير في الشعب واستمرار الجمود في السلطة. إنّ مخاطر اعتبار الربيع العربيّ طفرة إنّما يتضمّن غاية إبعاد حتميّة التداوليّة التلقائيّة، والتي يراد لها أن تفرض حالتها بقوّة الزمن والتاريخ والوعي، لأنّ تصوير التغيير حدثاً استثنائيّاً سوف يعطّل التداوليّة التلقائيّة والطبيعيّة ويسمح لطغيان الاستبداد بالعودة كحالة طبيعيّة، وهو الدرس الذي يجب على الدول العربيّة التي تعطّل التغيير التلقائيّ والإصلاحات السياسيّة أن تلتفت جيداً لمخاطر التعطيل.

إنّ ثورات الربيع العربي السلميّ قدّمت وطوّرت مفهوما للثورة، وهذا لم يكن ممكناً إلاّ بسبب تراكم ثقافيّ وفكريّ أسهم في تحوّلات ثقافيّة في مجاميع كبيرة من الشعب؛ فلعلّ من يبحث عن المثقّف بمقاسات مفهوم الثقافة الميّت لن يجده! ومن يبحث عنه في ملامح تطوّر الثقافة وما بعدها يجده فاعلاً ومحرّكاً في الربيع السلميّ، على الرغم من محاولات الإعلام الإكليروسيّ طمس وجوده وآثاره وتأثيراته انتصاراً للديني على السياثقافي والثقافي أيضاً؛ فما زرعه الفقهاء الثقافيّيون والمفكّرون العرب على مدى مئة عام: (بدءاً من العلمانيين والماديين والإسلاميين والقوميين وليس انتهاء بالمدوّنين والمغرّدين) يُؤتى بعض أكله وحصاده اليوم في الربيع السلميّ، كما أنّ حصاده يتكسّر -للأسف- في الربيع المسلّح، لكن المسألة أنّ الفرديّة العربيّة خرجت أخيراً من قمقمها الاجتماعيّ إلى مواجهة تحالف ممثّلي الدين والسلطة والمال، وعودتها إلى حظائر القطيع تحمل الكثير من المخاطر والشكوك.

هكذا لا يمكن اعتبار الثقافة أو المثقّف غائباً إلاّ إذا اعتبرنا أنّ الدين والمتديّنين غائبون عن الثورة المصريّة بسبب غياب الأزهر والكنيسة في ثورة مصر، فما حدث كان غياباً للدين المسيّس والثقافة المزورة، بينما لا يمكن إقصاء كلّ هؤلاء الشباب في الربيع السلمي ومن ناصرهم من أجيال متعدّدة أنّهم دون مفهوم الثقافة والسياثقافة، أو أن نضعهم في سلّة واحدة مع الربيع المسلّح، بينما هم يطوّرون ويحضّرون لمفاهيم واقعيّة ضدّ مفاهيم بالية، ويمارسون سياسة ضدّ السياسة، وثقافة ضدّ الثقافة.

Yaser.hejazi@gmail.com جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة