Culture Magazine Thursday  22/11/2012 G Issue 386
فضاءات
الخميس 8 ,محرم 1434   العدد  386
 
برغماتية الترجمة
د. بدر بن عبدالله العكاش

 

يُعَدّ مصطلح البرغماتية (pragmatics) من أكثر المصطلحات تداولاً في اللغويات وعلم الترجمة والأدب كذلك. وقد ظهرت البرغماتية في علم الإشارات الذي وضع أساسه كل من الفيلسوف الأمريكي بيرس الذي أسماه (Semiotics) واللغوي المعروف سوسير الذي أطلق عليه (semiology)، وذلك في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. يُعنى علم الإشارات بدراسة الإشارات والنظم التواصلية وخصائصهما ووظيفتهما في المجتمع. والإشارة هي كل ما يحمل دال يشير إلى مدلول، أي أنها تتكون من دال ومدلول. والإشارة قد تكون كلمة أو حركة يد أو الإشارات التي تستخدم في الحركة المرورية، وغيرها الكثير. إذا ما قصرنا الحديث هنا على اللغة فإن لسوسير تشبيهاً لطيفاً للكلمة؛ فهو يقول إن الكلمة تشبه الورقة، وكما أن للورقة جهتَيْن فللكلمة كذلك وجهان، فإذا ما قمنا بعملية قطع للورقة فإن كلتا الجهتين ستتعرض للقطع. وجهتا الكلمة هما الدال والمدلول. وبالمناسبة، هذا الفهم اللغوي لماهية الإشارة يتعارض مع مفهوم الإشارة في الفلسفة والمنطق (كارناب) اللذين يقدمان الإشارة كمعبر مادي أحادي التكوين يشير إلى مادة أخرى.

تدخل الإشارة (الكلمة) في ثلاثة أنواع من العلاقات (حددها موريس)، من بينها العلاقة البرغماتية التي تعني العلاقة بين الكلمات ومن يستخدمها (سواء كان متحدثاً أو مستمعاً، كاتباً أو قارئاً) أي كل ما يتصل باستيعاب الكلام وتفسيره.

من مثالم الأبحاث العلمية العربية في أغلب المجالات عدم الاهتمام بالنقل السليم للمصطلحات الأجنبية إلى اللغة العربية. هناك شروط معروفة لاشتقاق المصطلحات (بالتحديد تركيبة المصطلح)، منها على سبيل المثال: 1) موافقته لقواعد اللغة، 2) إمكانية أن يشتق منه كلمات أخرى، 3) الوضوح الدلالي، أي إمكانية تكوين تصور مبدئي عن المفهوم الذي يعبر عنه المصطلح عن طريق تركيبة المصطلح. إذا أخذنا على سبيل المثال مصطلح «البرغماتية» نجد أنه ينقل إلى العربية باستخدام المصطلحات الآتية: التداولية أو الذرائعية. أما هذا الأخير فإني أرى فيه تطرفاً اشتقاقياً! فهو - برأيي - غير مناسب على الإطلاق. فيما يتعلق بالتداولية فهي لا تعكس بشكل واضح ماهية البرغماتية. ولهذا فإنني أعتقد أنه من الأنسب استخدام مصطلح «البرغماتية» في اللسانيات إلى أن نجد مصطلحاً مناسباً.

فيما يتعلق بالبرغماتية في مجال علم الترجمة فهي تعرف بشكل عام بالتأثير في متلقي النص المترجم. ولا بد هنا أن نقف عند كلمة «التأثير»؛ فلا يجب أن يفهم التأثير هنا بالمعنى المباشر للكلمة، أي إثارة مشاعر معينة لدى المتلقي كالحزن أو الفرح أو التعاطف؛ لأن هذا الأمر ليس من مهام المترجم، بل من مهام كاتب النص الأصلي؛ فكاتب النص الأصلي قبل أن يبدأ بكتابة النص يضع له ما يسمى بوظيفة النص الأساسية ((dominant function التي تكون تأثيره المحتمل. وهي، أي وظيفة النص، تأتي تنفيذاً لمقصد كاتب النص (intention)، وبناء على ذلك يقوم باستخدام الاستراتيجيات الكتابية التي تساعده في تحقيق مبتغاه. وهنا من حق الكاتب على المترجم أن يقوم - أي المترجم - بالمحافظة على مقصد الكاتب والتأثير المحتمل للنص. فإذا فشل النص في تحقيق أهدافه فإن اللوم في هذه الحالة يقع على كاتب النص الأصلي وليس على المترجم. وجدير بالذكر أن التأثير المحتمل للنص، وهو ما يطلق عليه التأثير البرغماتي أو التواصلي، لا يقتصر فقط - كما ذكر أنفاً - على مفهوم التأثير بالمعنى المباشر، لكنه يختلف باختلاف طبيعة النص؛ فالنص الأدبي يفترض به أن يؤثر في القارئ تأثيراً فنياً جمالياً، أما النص العلمي فإنه يؤثر تأثيراً عقلياً، أي أنه مصدر للمعلومة. وهنا بالتحديد تكمن مهمة المترجم غير السهلة: وهي أن ينقل النص الأصلي بتأثيره البرغماتي (وهذا يتطلب تحليلاً دقيقاً للنص) إلى المتلقي ثم يترك له حرية التعامل مع هذا النص. ونخلص هنا إلى نتيجة مفادها أن: المترجم ينقل التأثير ولا يؤثر! وقد يقع التأثير وقد لا يقع! ولهذا أطلق عليه «التأثير المحتمل».

وقد بالغ بعض علماء الترجمة الذين قالوا إنه يجب أن يتطابق تأثير النص الأصلي في متلقيه مع تأثير النص المترجم في قارئه. إن هذا الأمر في غاية الصعوبة؛ لأنه حتى النص الأصلي الموجه لأبناء الوطن الواحد والثقافة الواحدة سيثير ردات فعل مختلفة؛ فمن باب أولى ألا تتطابق آراء أناس ينتمون إلى ثقافات مختلفة. وأنا هنا لا أنفي عدم إمكانية تطابق ردات فعل متلقي النص الأصلي والمترجم تماماً، قد يحصل هذا الأمر إذا تطابقت توجهاتهم الفكرية والشخصية.

المقصود ببرغماتية الترجمة - كما أرى - هو : أن يكون متلقي ((receptor النص المترجم على مستوى متلقي النص الأصلي نفسه من ناحية فهم النص، أي يجب على المترجم أن يقوم بإيصال النص إلى المتلقي بطريقة مفهومة وواضحة (باستخدام الوسائل الترجمية المختلفة) كما فهمه المتلقي الأصلي للنص. ولهذا أقترح أن يتم نقل مصطلح «البرغماتية» في مجال علم الترجمة إلى اللغة العربية باستخدام المصطلح الآتي: «تكافؤ الاستيعاب».

وختاماً أقول: إن الترجمة هي قواعد ونظريات ومعايير ومهارات، أي أنها علم، وليست «فناً وذوقاً» فقط كما يقول بعض زملائنا المشتغلين بالأدب!

أستاذ اللغة الروسية وعلم الترجمة المساعد كلية اللغات والترجمة - جامعة الملك سعود Albadr15ru@yahoo.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة