Culture Magazine Thursday  22/11/2012 G Issue 386
فضاءات
الخميس 8 ,محرم 1434   العدد  386
 
أبيض.. أبيض
بثينة الإبراهيم

 

عندما كنتُ أرسمني ذات مساء، صرتُ وجهاً بلا ملامح وأكفّاً بأصابعَ سوداء..هذه لحظة الشلل، تبدأ خدراً يسري في ذراعي اليمنى، ثم تصير خشبة يسير عليها العابرون ولا يبقى منهم إلا آثار أحذية!

تقول لي: «لم أعد أخاف الصفحات البيضاء»، وأقاومها أنا بدأب نملة! يكفيني من البياض ما يصبغ أحلامي بفجاجة، يشفق عليّ طبيبي ويغيّر حبات الدواء إلى ملوّنة، لعلها تفلح في حشر مزيدٍ من الصباغ في آلة الدماغ! أكافح ذاك الناصع بالأقلام الملونة تارة، وبالأسود الذي يستفزه إثم البياض تارة أخرى..

يرتبط اللون الأبيض في مخيّلتي برعب «الصفحة البيضاء»- الذي كان أكبر مخاوف همنجواي- والحلم الباهت الذي بلا لون، بخلاف خورخي بورخيس الذي يحلم بالألوان.. ألوانٍ عميقةٍ للغاية، كلاهما منذرٌ بفراغٍ وشيك، حين تنفضّ عني اللغة وتغادرني الصور والخيالات، فما الذي يبقى لي؟! اتّكائي على حرفٍ أو كلمةٍ جعلت منها رئةً تعين رئتي المعطوبة، ودرعاً أؤمّن به روحي مثل حزام زحل، يحيلني إلى كراهية «البياض الكامن» مرغمةً، بقدر ما يعيث في أصابعي رعباً وشللاً.

كثيراً ما أتخيّل نفسي مثل ذلك الرجل الذي رأى أذني الحاكم الطويلتين، ولأنّ الأخير هدّده بمصير أسود إن أفشى السر، فقد انتفخت بطنه، ولم يرتح حتى حفر حفرةً وصرخ فيها بسره ثم ردمها، وكان أن حرث فلاح الأرض نفسها، فانتشر السر وتردّد صدى صوت الرجل في الآفاق، وتناقلت الخبر الطيور والأشجار! وأنا في احتباس الحرف عني أخشى أن أصاب بتخمة ذاك الرجل، ويصير مصيري أسود دون صفحاتي، ليس رغبة في الثرثرة، ولكن لأن التواصل مع الورق يغدو - غالباً- أسهل من التواصل مع الآخرين!

ومن أجل ذلك، أحيط نفسي بكثير من الدفاتر والكتب، أعيش هوساً من نوع خاص، فتارةً أخزّن البياض في انتظاره «تسويده» انتقاماً، وأقضم صفحات الكتب مثل دودةٍ كبيرةٍ تارةً أخرى! كأنّي أحفظ ما يغيث جفافي حين تُعرض عني الحروف ويصير سعيي خلفها كمن يقبض على ماء.

يقول أحدهم بأنه يكتب كيلا يموت، وأنا أقتفي خطى شهرزاد فأدفع موتي بالكتابة، برغم كل الفخاخ التي قد تنصبها لي الحروف، والإحساس بأنني أسير على حبل معلق! من الحرف والكلمة أصنع جبيرةً أقيم بها فتيت الساعد، وضماداتٍ يبرأ بها عنق الدواة المكسور أو حتى عنقي.

القاهرة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة