Culture Magazine Thursday  23/02/2012 G Issue 364
فضاءات
الخميس 1 ,ربيع الآخر 1433   العدد  364
 
المرأة والمجتمع في الخطاب الليبرالي السعودي
د.إبراهيم بن منصور التركي

 

تتفق التناولات المختلفة لمفهوم الليبرالية على دورانها حول معاني الحرية والمساواة في الحقوق. وهي بذلك تأتي لتتناول مختلف المجالات الممكنة للحرية والمساواة، إنْ في مجال الحريات السياسية أو الدينية أو الاجتماعية.

وترتبط الليبرالية بشكل كبير بالمجتمع التعدّدي الذي يوفّر للفرد حرية الاختيار وامتلاك القرار دون إملاءات خارجية أو وصاية من أحد. لهذا تبدو الليبرالية غير منسجمة أو متوائمة مع المجتمعات المنغلقة أو المحافظة التي تحدّد للفرد الخيارات الواجب عليه اتّباعها، وإذا وُجِدت نزعة أو تيار ليبرالي في مجتمعاتٍ كهذه فإن دورها يسعى لنشر قيم الحرية والمساواة في مثل هذه الأوساط، وهو ما يدّعي الخطاب الليبرالي أنه فعله ويفعله في المجتمع السعودي المحافظ.

لذا من الطبيعي أن يجد هذا الخطاب نفسه في مأزق وسط مجتمع تبلغ درجة محافظته أعلى القمّة، إذ على هذا الخطاب في وسطٍ كهذا إمّا أن يذعن للقيم السائدة ويكون ترساً في الآلة الشعبية المحافظة، أو أن يتمسّك بآرائه ورؤاه فيصبح صوتاً نشازاً يجدّف عكس التيار. وستحاول السطور الآتية معرفة النهج الذي اختاره الخطاب الليبرالي السعودي، وكيف يعمل على تنفيذه.

إعلان الوجود:

اختار الخطاب الليبرالي السعودي طريقين لإعلان وجوده، أولهما الحديث عن قضايا المرأة باستفاضة بوصفه المنفذ الأهم لإعلان وجوده وتمرير رؤاه. وثمة سبيل آخر يتقاطع أحياناً مع السبيل الأول ويتداخل معه، ويلجأ إليه الخطاب الليبرالي أحياناً، ألا وهو (مشاغبة) التيار الإسلامي. وهي حيلة يفتعِلها الخطاب الليبرالي بين آن وآخر، (وكثيراً ما يقع في شراكها الخطاب الإسلامي بسذاجة نراها كثيراً في معارض الكتاب). وتروم هذه المشاغبات إلى جرّ الخطاب الإسلامي نحو مواجهة مع المجتمع، من خلال سحبه إلى مناطق السخط والرفض الاجتماعي، وإظهاره بمظهر من يفرض الوصاية على حياة الناس ويتدخّل في حريّاتهم. وقد ينقلب السحر على الساحر، فتشوّه هذه المشاغبات الخطاب الليبرالي نفسَه، وتجعله في موقع من هو ضدّ الدين في نظر العامة، فالوعي الاجتماعي لا يفصل في كثيرٍ من الأحيان بين الإسلام والإسلامي.

لماذا المرأة؟

يتّضح إذن أن المرأة تمثّل حجر الزاوية في طروحات الخطاب الليبرالي المحلي، في حين يغيب الحديث عن قضايا الحريات الدينية والحريات السياسية، فلماذا اختار الخطاب الليبرالي السعودي المرأة ليجعلها قضيته الأثيرة؟

يبدو أن ثمة سببين رئيسين وراء ذلك، الأول إقناعي والآخر أمني. فأما الإقناعي فيظهر من خلال ما يطرحه العالم الأمريكي كينيث بيرك Kenneth Burke عن مفهوم (الهوية) خلال تعريفه البلاغة، إذ يذهب إلى أن الأشخاص يصنّفون أنفسهم ويشكّلون هوياتهم من خلال أشياء متعددة يشتركون فيها مع غيرهم، مثل العمل أو العائلة أو الميول أو الدين أو الوطن.. إلخ، ويؤكد (بيرك) على أنه لكي ينجز الخطاب البلاغي هدفَه بنجاح فإن المتكلم بحاجة إلى مراعاة الهويات المشتركة التي تصله بجمهوره، فذلك أدعى لإقناعهم وإقبالهم على فكره ورؤيته، وهو أمرٌ قد يفعله المتكلّم بوعي أو بدون.

إن هذه الرؤية تعني أن الانطلاق من هوية مخالفة يعيق قدرة الخطاب الإقناعية، ويمنع الجمهور من الإذعان والامتثال لمحتواه. ويعي هذا الأمر بكل تأكيد الخطاب الليبرالي السعودي، فهو لا ينطلق صراحة من قيم تتصادم مع الهوية الدينية أو الهوية الوطنية للمجتمع السعودي. لذا يبدو من الصعب أن تنادي الليبرالية السعودية بالحريات الدينية أو الحريات السياسية في مجتمع محافظ، لأن الحديث في هذين المجالين يُضعِف قدرتها على الإقناع، ويحرمها التأثير المطلوب، فهو يجعلها تتجافى عن الهويات الرئيسة التي ينطلق منها الوعي الاجتماعي العام.

ويظهر السبب الأمني في كون الليبرالية تحتاج إلى فضاء مفتوح تتحرّك فيه، وإلا كانت مخنوقة لا تستطيع الإفصاح، وهو ما لا يتحقّق في المجتمع السعودي المحافظ الذي يحظر الحديث في المجالين الديني والسياسي بحديث يخالف الرؤية السائدة، وبالتالي فإن الحديث في هذين المجالين أمرٌ خطير ليس على الخطاب الليبرالي كفكر فقط، بل قد يهدد الحديث فيهما شخوص هذا الخطاب بالأذى الجسدي. وبما أنه يستحيل على الخطاب الليبرالي السعودي التحرّك في هذين المجالين فإنه لم يبق أمامه إلا المجال الاجتماعي، لكنه في هذا المجال ركّز على قضية المرأة بوصفها –في نظره- القضية التي تُسلَب فيها الحقوق الكاملة. (ثمة قلة من الليبراليين قد تحدثوا عن قضايا أخرى مهمة لكنهم قلة قليلة لا تكاد تُذكَر).

وهذا يعني أن اختيار الحديث عن قضايا المرأة هو في المقام الأول هو بحث عن فضاء محايد آمن يحقق لليبرالية وجودها، وفي الوقت نفسه يقيها خطر الاستئصال من المجتمع الذي يُحكِم القبضة على قضايا الدين والسياسة.

التفكير الذكوري:

ينظر الخطاب الليبرالي إذن إلى المجتمع من خلال المرأة، وبهذا تصبح المرأة مجازاً للمجتمع، ويصبح الحديث رمزاً لقضايا المجتمع، أو لنقل إنه (المنبر) الذي اختاره الخطاب الليبرالي لتمرير أفكاره ورؤاه. إن ثمة تصوراً استعارياً ينطلق من خلاله الخطاب الليبرالي ينظر فيه إلى المجتمع بوصفه امرأة. ويؤثر هذا التصوّر الاستعاري بلا جدال على سائر الأنشطة والسلوكيات التي تصدر عن هذا الخطاب، إذ يؤدي هذا التصوّر إلى وجود انعكاسات سلوكية ينجرّ إليها الخطاب الليبرالي تكشف عن ذكورية طاغية في التفكير والممارسة.

إن النظر إلى المجتمع من خلال المرأة جعل الخطاب الليبرالي ينظر إلى صراعه مع الخطاب الإسلامي من أجل الحصول على قبول المجتمع ورضاه، أشبه بمعركة للظفر برضا معشوقة يحاول استمالتها وإغراءها بأفكاره الجريئة لتقترف معه ما يغويها به. إنه لا ينظر إلى نفسه على أنه صاحب قضية، بل مجرّد عاشق دَنِف يسعى إلى انتزاع قلب حبيبته (المجتمع) من زوجها الرسمي (التيار الإسلامي)، لذا تراه لا يحاول أن يكتسب شرعية وجوده من خلال الإقناع بأفكاره وقضاياه وإنما من خلال تشويه صورة غريمة (التيار الإسلامي) ليبقى وحيدا في عيني الحبيبة.

وبحكم أن جسد المرأة هو ميدان إنجاز الذكورة فعلها البيولوجي، وبه يصبح الرجل كامل الرجولة (حسب المفهوم النسقي للرجولة) وذلك عندما يحقّق مع المرأة وللمرأة المتعة الكاملة، فإن اختيار المرأة موضوعاً للحديث يكشف عن التفكير الذكوري في الخطاب الليبرالي، فهو في اقتصاره على قضايا المرأة يبدو كمن لا يرى إنجازا لخطابه إلا من خلال ما يحققه مع المرأة وللمرأة من حقوق يدّعيها، بحيث يغدو النجاح في قضايا المرأة معادلاً لنجاح الفعل الجسدي بين الذكر والأنثى.

لم تعد القضايا الاجتماعية مثل الفقر والعنصرية وغيرها ذات اهتمام عند أرباب الخطاب الليبرالي، فالمرأة تشغل معظم اهتمامه وتفكيره، وهو بهذا يجسّد الذكر الذي يقف لينافح ويدافع عن حقه الفطري والغريزي نحو الأنثى التي تنجذب نفسُه إليها. ولذلك يصبح عجزه عن الوصول مع المرأة إلى استمتاعها بحقوقها الكاملة معادلاً لحالة العنّة والعجز الجنسي الذي لا يستطيع فيها الذكر الوصول بالأنثى إلى حالة المتعة والنشوة.

إن بعض رموز الخطاب الليبرالي السعودي حينما اختاروا قضايا المرأة لتكون قضيتهم الأولى لم يكن يعلموا أنهم جاءوا ليعالجوا مشكلات مجتمع محافظ بمنطق تقدّمي في الظاهر، ولكنه رجعيّ متخلّف في الباطن، منطق يحكمه الجسد لا العقل، منطق تقوده الشهوة والمتعة لا المنفعة والمصلحة. ولو كان هؤلاء الرموز جادّين في الإصلاح والتغيير فقد كان أمامهم الكثير من القضايا التي تحتاج إلى العناية والاهتمام، والله من وراء القصد.

بريدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة