Culture Magazine Thursday  23/02/2012 G Issue 364
فضاءات
الخميس 1 ,ربيع الآخر 1433   العدد  364
 
الشعر العربي القديم والحكايات الخرافية (2)
فاضل الربيعي

 

هذا التعسف هو الذي دفع ناقداً مثل الفراهي إلى التنبيه لوجود تأويلات للقرآن لا تتسم بالدقة، وأن الخيال يغلب عليها.

ويكتب أحد النقاد المعاصرين (مؤلف معجم مفردات القرآن) ما يلي: (أما التحقيق والتأصيل والتدقيق فهو ما لجأ إليه الفراهي.

ولا بد أن الذي دفع الفراهي إلى هذه الدراسة شعوره بأن المعنى المعروف ليس دقيقاً، وبخاصة حينما ينظر إليه في تفسير الآية القرآنية كما في قوله تعالى في سورة -الرحمن- أيتا ?يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ? و?فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ? فأين النعمة في إرسال الشواظ من النار؟ هذا ما اضطر كثيراً من المفسرين إلى التعسف في التأويل، ومن ثم كان التحقيق بالرجوع إلى الشعر الجاهلي لاستنقاذ أصل المعنى بعد أن كاد ينسى. وفضلاً عن التعسف في التأويل، كان هناك ما يشبه العجز عن تقديم رؤية موضوعية للجانب الأسطوري الخلاب في هذه الأشعار، وغالباً ما جرى استخدامها في النقاش كدليل على انحراف الشعراء وانشغالهم بالخرافات، وهو ما يعني أن هؤلاء، كانوا في سلوكهم يؤدون وظيفة متعارضة مع التوحيد.

وهذا رأي فيه الكثير من التعسف، ولعب دوراً حاسماً في صياغة مفهوم خاطئ للأسطورة في الثقافة العربية المعاصرة لا يزال فعالاً ومؤثراً.

يقول ابْن عَبْد الْبَرّ في سياق السجال حول معنى العرش وشرح آية: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَه وَفِي الْأَرْض إِلَه)وَكذلك (وَهُوَ اللَّه فِي السَّمَاوَات وَفِي الْأَرْض) و(مَا يَكُون مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رَابِعهمْ) إن العرش كما تصوره أمية بن أبي الصلت (أإنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى الْعَرْش فَوْق السَّمَاوَات) وأن (بَيْن سَمَاء الدُّنْيَا وَاَلَّتِي تَلِيهَا خَمْسمِائَةِ عَام، وَبَيْن كُلّ سَمَاء خَمْسمِائَةِ عَام، وَبَيْن السَّمَاء السَّابِعَة وَالْكُرْسِيّ خَمْسمِائَةِ عَام، وَبَيْن الْكُرْسِيّ وَبَيْن الْمَاء خَمْسمِائَةِ عَام، وَالْكُرْسِيّ فَوْق الْمَاء.

وَاَللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَوْق الْكُرْسِيّ وَيَعْلَم مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ).

وعَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ «مَا بَيْن السَّمَاء إِلَى الأَرْض مَسِيرَة خَمْسمِائَةِ عَام.

ثُمَّ بَيْن كُلّ سَمَاءَيْنِ مَسِيرَة خَمْسمِائَةِ عَام، وَغِلَظ كُلّ سَمَاء مَسِيرَة خَمْسمِائَةِ عَام، ثُمَّ مَا بَيْن السَّمَاء السَّابِعَة وَبَيْن الْكُرْسِيّ مَسِيرَة خَمْسمِائَةِ عَام وَمَا بَيْن الْكُرْسِيّ وَالْمَاء خَمْسمِائَةِ عَام وَالْكُرْسِيّ فَوْق الْمَاء وَاَللَّه فَوْق الْعَرْش. وَلا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء مِنْ أَعْمَالكُمْ».

هذا النقاش الذي انتهى -عملياً- إلى تقديم تصور أسطوري للزمن، كان يعبر عن جوهر المشكلة في فهم علاقة الشعر الجاهلي بالقرآن (وهكذا نرى أن السابقين فسروا العصر بالدهر والزمان عموماً، وأن الفراهي رأى أن ذلك التفسير غير دقيق، فانطلق يرتاد رياض الشعر الجاهلي باحثاً عن حقيقة المعنى، فانتهى إلى أنه ليس مطلق الزمان وإنما هو الزمان الماضي، وأكد ذلك بالشواهد الشعرية الكثيرة. وهذا يعني أن المعاني الدقيقة يمكن الوصول إليها من خلال استعمال العرب الأقحاح لها في شعرهم ). ويدل على ذلك قول أمية بن أبي الصلت في تصوره للكون والشمس. قال:

والشمس تبدو كل آخر ليلة حمراء يصبح لونها يتوقد

وقال: فَسُبْحَان مَنْ لا يُقَدِّر الْخَلْق قَدْره وَمَنْ هُوَ فَوْق الْعَرْش فَرْد مُوَحَّد

مَلِيك عَلَى عَرْش السَّمَاء مُهَيْمِن لِعِزَّتِهِ تَعْنُو الْوُجُوه وَتَسْجُد

وقد ارتأى ابن حجر وهو يصف الأجواء التي سادت في مجتمع السلمين الأوائل، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن ينهي عن هذا النقاش الساخن حول قيمة الشعر الجاهلي، وأهميته في إعادة قراءة معاني القرآن.

قال وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيّ فِي الأَدَب الْمُفْرَد: صَحِبْت عِمْرَان بْن حُصَيْن مِنْ الْكُوفَة إِلَى الْبَصْرَة فَقَلَّ مَنْزِل نَزَلَهُ إِلا وَهُوَ يُنْشِدُنِي شِعْرًا.

وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ عَنْ جَمَاعَة مِنْ كِبَار الصَّحَابَة وَمِنْ كِبَار التَّابِعِينَ، أَنَّهُمْ قَالُوا: الشِّعْر َأَنْشَدُوهُ وَاسْتَنْشَدُوهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيّ فِي الأَدَب الْمُفْرَد عَنْ خَالِد بْن كَيْسَانَ قَالَ: كُنْت عِنْدَ اِبْن عُمَر فَوَقَفَ عَلَيْهِ إِيَاس بْن خَيْثَمَةَ فَقَالَ: أَلا أَنْشُدك مِنْ شِعْرِي؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنْ لا تُنْشِدنِي إِلا حَسَنًا.

وَأَخْرَجَ اِبْن أَبِي شَيْبَة بِسَنَدٍ حَسَن عَنْ أَبِي سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مُنْحَرِفِينَ وَلا مُتَمَاوِتِينَ، وَكَانُوا يَتَنَاشَدُونَ الأَشْعَار فِي مَجَالِسهمْ وَيَذْكُرُونَ أَمْر جَاهِلِيَّتهمْ، فَإِذَا أُرِيدَ أَحَدهمْ عَلَى شَيْء مِنْ دِينه دَارَتْ حَمَالِيق عَيْنَيْهِ.

وَمِنْ طَرِيق عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْرَة قَالَ: كُنْت أُجَالِس أَصْحَاب رَسُول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- مَعَ أَبِي فِي الْمَسْجِد فَيَتَنَاشَدُونَ الأَشْعَار وَيَذْكُرُونَ حَدِيث الْجَاهِلِيَّة.

وَأَخْرَجَ أَحْمَد وَابْن أَبِي شَيْبَة وَالتِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيث جَابِر بْن سَمُرَة قَالَ: كَانَ أَصْحَاب رَسُول - صلى الله عليه وسلم - يَتَذَاكَرُونَ الشِّعْر وَحَدِيث الْجَاهِلِيَّة عِنْدَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَلا يَنْهَاهُمْ.

وَرُبَّمَا يَتَبَسَّم.

هولندا

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة