Culture Magazine Thursday  26/04/2012 G Issue 371
فضاءات
الخميس 5 ,جمادى الآخر 1433   العدد  371
 
قيمة النظرية
د. صالح زياد

 

تبدو النظرية لدى عامة الناس نوعاً من الترف والتعجرف الفكري فالنظرية ليست معطى سهلاً، والألفة لها وتطويعها للفهم في حاجة إلى جهد وجديَّة ومثابرة، وبالقدر نفسه مرونة وطواعية للتحول وشهية معرفية مفتوحة على البحث والاكتشاف وإطلاق الأسئلة والفرضيات. ومن هنا يبدو استعصاء النظرية وتعجرفها والشعور أحياناً بأنها بلا ضرورة أو لا معنى لها، أو أنها لا تعلِّم شيئاً، ولا تمتع. وقد تصل هذه الأسباب بين النظرية والمجتمعات المتقدمة التي جاوزت الضرورة إلى بعض الترف المعرفي، والبساطة إلى التعقيد، والمعيشة التلقينية المطمئنة إلى قلق الفكر وحمَّى الأسئلة. كما قد تصلها بشخصيات نوعية ذات طبيعة تميل إلى العزلة عن الواقع والبعد عن المعايشة للحقيقة وتجنح إلى التأمل. ومثل ذلك ما قد تفضي إليه المسألة من التمييز بين النظرية في العلوم الطبيعية والتِّقَنِيَّة التي يكون لها نتائج عملية ونفعية ملموسة على نحو مباشر، والنظرية في العلوم الإنسانية وخصوصاً نظرية الأدب التي لا تثمر نتائج بتلك الصفة العملية والنفعية المباشرة. وهذا التمييز يُنْتِج المفاضلة التي ترفع من شأن النظرية الطبيعية والتقنية وتمنحها الثقة والصدقيّة والقبول حتى وهي مستعصية على الفهم و مجاوزة للمألوف، وذلك على عكس النظرية الإنسانية التي لا تحصد في هذه المفاضلة ما يمنحها قيمة أو يعزز اليقين فيها والقبول لها. ويَحْسُن بإيحاء تلك المفاضلة أن استعير وصف إيان كريب لمقام المشتغلين بالنظرية في الحقل الإنساني، في قوله: «يعتبر المُنَظِّر شيئاً زائداً على الحاجة وموضوعاً للتندر وعبئاً على زملائه، ولذا فإن المُنَظِّر يصبح في المحصلة النهائية في منزلة أدنى وليس أعلى بين زملائه في الترتيب غير الرسمي، وكرد فعل على هذا يذود الكثير ممن يرون أنفسهم مُنَظِّرين عن أنفسهم بالتحصُّن بالكبرياء». لكن المجافاة للنظرية تأخذ وجهاً آخر لا صلة له بالمعاني المطروحة أعلاه، وهو وجه يحيل على صراع القوة والسلطة والهوية في المجتمعات. فالنظرية هنا من حيث إنتاجُها معرفةً، تندرج في خطاب وتُنتِج -كما هو الحال في كل خطاب- قوة وتعيد توزيعها، وتمتلك -فيما يبرهن ميشيل فوكو في تحليله للخطاب- خطورة مادية. ولهذا تم وضع الفعل النظري -منذ أقدم العصور- تحت المراقبة والقمع بالوسائل الخارجية التي نجد أمثلتها في الحكم على سقراط بالموت والأحكام -في فترات التاريخ المتعاقبة- على غيره من الفلاسفة والمنظِّرين والعلماء حرقاً أو قتلاً أو سجناً أو نفياً أو منعاً للناس من قراءة مؤلفاتهم. وما تزال جامعات عربية أو عالمية تمنع -مثلاً- تدريس النظريات الماركسية والمادية وأخرى تحارب البنيوية أو التفكيكية والنظريات النصية... الخ. وقد يأخذ التحكم في النظرية -كما هو الحال في كل خطاب- طابعاً مُضْمَراً في التنظيم الداخلي للفعل النظري فهناك مساحات من الصمت والاستبعاد وأخرى من الإعلان والإفصاح والتأكيد، وهناك ما يقال وما لا يقال، وما يخضع للتحديد والكشف والابتكار وما يمتنع. وهجرة النظرية أو انتقالها من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان ومن شخص إلى شخص مجلى لاكتشاف حالات التحول والتحريف والحذف والإضافة والجمود والتطوير التي تطرأ عليها، والتي تبرهن على الوعي بالقوة المادية فيها بحيث يتم التحكم فيها وتحجيمها أو تتاح لها فرصة أكبر من الحرية والنمو بحسب السياق الذي تهاجر إليه والطاقات الفكرية التي تتبنَّاها. ولهذا رأى إدورد سعيد أن للنظرية المهاجرة أربعة أطوار أو مراحل، أولها في موضعها الأصلي أي مجموعة الظروف الأولية التي صادف أن وُلِدت فيها الفكرة أو راجت من خلالها في الخطاب. والثاني مسافة الانتقال التي تعترض سبيلها وهي تشق دربها في خضم ضغوط شتى حتى تحظى بلألائها الجديد. والثالث ظروف التقبل أو ضروب المقاومة التي تواجه النظرية والتي تحتويها من جديد. وأخيراً التحوير الذي تتعرض له الفكرة من جراء استخداماتها الجديدة في موقعها الجديد.

والمثال الذي يضربه إدورد سعيد للنظرية المهاجرة هو أفكار المجري جورج لوكاش التي استلهمها تلميذه لوسيان جولدمان في نظرية البنيوية التكوينية. فلوكاش في كتابه «التاريخ والوعي الطبقي» يعطي الأهمية للوعي، ويجعل الذات مقابل الموضوع، والوعي مقابل الوجود، وبذلك لا تكون الذات ملحقة بالتاريخ وإنما داخله على عكس المنظور الماركسي في أولوية الموضوع على الذات والوجود على الوعي. وقد كيَّف جولدمان نظرية لوكاش بأن نزع عنها دورها الثوري، وأحال الوعي الطبقي إلى رؤية، هي وعي جماعي يستمدُّه ويعبِّر عنه عمل بعض كبار الكتاب من ظروف اقتصادية وسياسية شائعة بين أفراد زمرتهم. وبذلك يستحيل التفكك والتناقض الذي ظهر على النظرية عند لوكاش بين الوعي النظري وبين الواقع المتجسِّد مادياً، إلى تلاحم بين الجزء والكل، بين واقع اجتماعي وكتابات بعض الأفراد الموهوبين ضمن جماعة ما فيه. ويحيل إدورد سعيد الفرق بين النسختين المطروحتين عن النظرية على مسافة الانتقال من لوكاش إلى جولدمان «فلوكاش يكتب كمشارك في صراع... في حين أن جولدمان يكتب كمؤرخ منفيّ في السوربون». وإذا نظرنا إلى نظرية أرسطو عن الشعر، فإن انتقالها إلى التراث العربي الإسلامي كان فهمها وتصورها أكثر من أن يكون المطابقة لها دونما اختلاف. فمتَّى بن يونس ترجم المأساة بالمديح والملهاة بالهجاء، لأنه لم يجد في الشعر العربي الدلالة التي يعنيها أرسطو بهذين النوعين في الشعر اليوناني. وكان التخييل أو التشبيه بالتبادل وبالتضمين لمعنى أحدهما في الآخر، في تلخيصات الفارابي وابن سينا وابن رشد لأرسطو وشروحاتهم له هما المصطلح المقابل للمحاكاة، وهذا يحرف مفهوم المحاكاة أو ينتقصه ليطابق ما في الشعر العربي. لكن نظرية أرسطو لفتت نقدياً أولئك الفلاسفة إلى جوانب القصور والنقص في التصور العربي للشعر ولوظيفته كما في تنبُّه ابن رشد إلى شعر يحاكي الأفعال ولا يحاكي الذوات فقط، وبحثه عن نموذج قصصي بمدلول إنساني وأخلاقي، أو ضيق الفارابي بما يسميه «النهم والكُدية» والانحصار في دائرة الحس في الشعر العربي. هكذا يبدو جانب من قيمة النظرية مرتباً على الوجود التاريخي، فليس هناك نظرية تأخذ مدى مطلقاً وتتنبأ بكل الحالات وتطوِّقها، وبالمثْل ليس هناك من وجود تاريخي للثقافة أو الأدب أو المجتمع يهيمن هيمنة مطلقة، ويأخذ صفة الكمال، فهنا وهناك تنتفي الحاجة للنظرية لأننا في مدار المطلق لا النسبي ولهذا كانت النسبية صفة لازمة في كل وعي بالنظرية. وهي نسبية تشرط تشكل النظرية وانبثاقها وتطوّرها، مثلما مجاوزتها إلى غيرها بسبب العلاقة بين النظرية والحاجة إلى تعليل وتفسير الظواهر والأحداث والأشياء التي لا نستطيع فهمها والهيمنة عليها، فإذا كنا نفهم ونتحكم في ظاهرة أو حدث أو شيء فإننا لن نحتاج إلى التفسير أو التعليل أي لن نفكر تفكيراً نظرياً. وقد يقفنا الحديث عن نسبية النظرية على تلاشي قيمتها المعرفية في الحقل الإنساني كما هو الحال في نظرية الأدب، فالأدب من وجهة الدراسة التاريخية والنقدية هو موضوع للبحث عن التفرد الذي يخالف بين البحتري والمتنبي، ويغاير بين راسين وموليير، ونجيب محفوظ وساراماغو... الخ بينما تبحث النظرية عن أطر وأنساق تجريدية تجمع هذا الاختلاف في تفسير وتنفذ من وراء فردياته إلى الكل الجامع لأوصافها. لكن هذا المنظور هو ما يحرِّض النظرية الأدبية ويزيد الحاجة إليها، ذلك أن الأدب كما يصفه رينيه ويليك «ليس نسقاً مطرداً من أعمال فريدة لا يوجد بينها شيء مشترك.. كما أن عالمنا ليس هذا العالم المغلق على التماثل وعدم التعدُّد» وقد خلص ويليك في هذا الصدد إلى التحذير مما أسماه النسبية والإطلاقية الزائفتين، وهما زائفتان طبعاً حين يؤخذان مأخذاً شمولياً، لأن الأدب عام وخاص، وأبدي وتاريخي في وقت معاً، وكما أن فرديته وتاريخيته بالمعنى الحرفي ليست شأناً يجاوز الخصوص إلى العموم، واللحظة إلى الزمان، فإن عمومه وأبديته لا يَحْدُثان من دون خصوص وتاريخية. أما القيمة المعرفية للنظرية فهي قيمة حادثة من دخول الذات إلى إدراك جديد، أي فهم وتصور وتعليل، وما يجسد ذلك ويدل عليه من مصطلحات جديدة، وتأسيس منهجي محدد لممارسة القراءة والتأويل والتحليل والاكتشاف في مدار الاختبار لتوافق المبادئ والتفسيرات مع النماذج والوقائع. وبذلك تصبح النظرية في حقل الأدب أفقاً حاكماً لتنظيم الدراسة النقدية والتاريخية، فبلا نظرية ليس هناك نظام حاكم للدراسة. ولهذا يصدق استنتاج رينيه ويليك في الوصل بين النظرية ونقد الأدب وتاريخه، فكل منها يتضمن الآخر، ولا يمكن فهم أحدها بمعزل عن الآخرَيْن، و «من المستحيل وضع نظرية للأدب إلا على أساس دراسة أعمال أدبية معينة، فالمعايير والمقولات والخطط لا يمكن التوصل إليها في الفراغ. وعكس ذلك صحيح، فمن غير الممكن أن نكتب التاريخ أو النقد بدون مجموعة من التساؤلات، ونظام من المفهومات.. وبدون بعض التعميمات». هذه الممارسة المعرفية التي تمكِّننا منها النظرية، وصلت في تطورات النظرية التي شهدها -على وجه الخصوص- النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي وما تلاه، إلى نوع من الانعكاس الذاتي الذي انعطفت فيه النظرية على ذاتها، لتنقد ما يسميه جوناثان كولر «الحس السليم» وتجادله. وهو التصورات والقناعات التي نعتقد أنها سليمة وطبيعية وبديهية وواقعية وما إلى ذلك، فما نسلِّم بأنه حس سليم إنما هو بنيان تاريخي، ومن هنا المساءلة للمقدمات المنطقية للدراسات الأدبية، والشك في استقرار أي شيء من المفاهيم الأدبية: ما المعنى؟ ما المؤلف؟ ما الشعر؟ ما الأدب؟ ما القارئ؟ ما الذي يعنيه أن يقرأ المرأ... الخ؟

لكن هذه المُساءلة والشك المستمرين يفارقان ما كانت عليه النظرية خصوصاً في تجلياتها القديمة، تلك التي كانت تؤخذ مبادؤها ومفاهيمها وتفسيراتها -لدى الأدباء والدارسين- مأخذ الإطلاق، وتغدو تسليماً بلا مساءلة. وهذا ملمح في النظرية في مسافة الاتصال بالإيديولوجيا والمذهبية. فالكلاسيكية مذهب أدبي وقد استحالت النظرية لديه في توارث مقولات أرسطو والقدامى إلى قيود اتباعية وأبدية، لا تقبل المساءلة والشك. والأمر نفسه لدى الرومانسية فهي مذهب أدبي، وعلى الرغم من ثورتها على القيود الكلاسيكية فقد كانت تنطوي على مفاهيم ومبادئ تأخذ صفة إطلاقية، ومن ذلك فردية المؤلف ومركزيته التعبيرية. ومؤكد أن لهذه النظريات وجهاً معرفياً في تنظيم الإدراك للأدب ومَفْهَمَته، ولكنها بصفتها المذهبية أعاقت نشاط الدرس الأدبي وتطوُّر النظرية. وأتصور أنه يلزم عن ذلك سؤال منطقي: هل هناك نظرية صحيحة وأخرى خاطئة؟ وإجابة هذا السؤال إيجاباً أو سلباً وثيقة الصلة بقيمة النظرية بقدر ما هي وثيقة الصلة بحقيقتها. لكن الإجابة بالإيجاب تعني أننا بصدد قوانين لا نظريات، فالنظريات الإنسانية غير قابلة للتجريب والقياس على نحو صارم. ولذلك فإن استبدال الكفاية والتماسك المنطقي بالصحة أو الخطأ أكثر دقة في الدلالة على جودة الأطروحة النظرية وجدارتها، فهناك نظريات ضئيلة في كفاءتها التفسيرية، وغير متماسكة منطقياً. وقد تأخذ صفة الجدارة والجودة مقياساً مستمداً من الإيديولوجيا، فذوو الميول اليسارية أقرب إلى تأكيد جدارة النظريات المستمدة من المادية الجدلية والماركسية والواقعية الاشتراكية، وأصحاب النقد النسوي لا يرون نفعاً في غير النظرية النسوية، وليس من مشكلة تعيشها المجتمعات أكثر من الأبوية البطريريكية.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة