Culture Magazine Thursday  26/04/2012 G Issue 371
فضاءات
الخميس 5 ,جمادى الآخر 1433   العدد  371
 
مصيدة مثلث الدلالات
ما بعد ثورة الربيع العربي -3-
سهام القحطاني

 

من الذي يؤثّر في تأسيس ثقافة ما بعد الثورة؟

لكن علينا قبل البحث عن إجابة السؤال السابق أن نضع في اعتبارنا أمرين الأول أن ما يصاحب البيئة الثورية من اضطراب في الماهية وفوضى للحد لا يُنتج ثقافة إنما يُنتج ظاهرة ثقافية.

وتلك الظاهرة هي التي تتوسط مرحلة الانتقال من مرحلة» ما قبل» إلى «مرحلة «ما بعد».

والأمر الآخر أن ثقافة ما بعد الثورة تعتمد على إعادة توزيع دلالات مثلث «عناصر قيمة الوجود» وهي «العقيدة والحرية والأمن والعدالة والمساواة»، والتي ستظل في حالة تمامها الفاعلي أو الافتراضي تمثّل فلسفة حتمية قيمة البقاء، كما ستظل في حالة غيابها أو الإفراط في استخدامها تمثل فلسفة إشكالية قيمة البقاء.

وهي العناصر التي تحقق للإنسان آلية الوجود وقيمته واستقراره في حالة تمامها، أو تدفعه للثورة والانقلاب وعدم الاستقرار في حالة غيابها أو نقصانها أو قوة الإفراط فيها.

يثور الإنسان عندما «يفقد قيمته»من خلال الظلم والقمع والخوف والتمييز والتطرف أو الكفر، ولا يسترد تلك القيمة إلا من خلال الاستحقاق الخاص بالحرية والعدالة والأمن والمساواة وسلامة المعتقد، ولذلك تعد تلك العناصر هي «مؤسِسات» قيمة الوجود الإنساني الفاعلي والافتراضي والقانوني والفكري، وبتمامها تتحقق «البيئة السلمية» وبغيابها أو نقصانها تُنتج «البيئة الثورية».

فالثورات تقوم لرفض مشتقات عنصر من تلك العناصر أو أكثر من عنصر، أو المطالبة بمشتقات عنصر آخر أو أكثر من عناصر قيمة الوجود.

فما تنتجه قوة الإفراط في العقيدة من تطرف أو غيابه من كفر يؤدي إلى قيام ثورة، وما تُنتجه قوة الإفراط في الحرية من قمع أو غيابه من انفلات يسوغ للثورة.

وهكذا يمكننا القياس على بقية العناصر ففي الإفراط كما في الغياب كلاهما يسوّغ للثورة الشعبية.

وهذا التوزيع بدوره لمثلث دلالة كل عنصر يقتضي إعادة إنتاج البنى الفهمية للماهيات والحدود وما يتبعها من نظام ومنظومة ثقافيتين، يؤثران على إعادة تشكيل النظام الاجتماعي.

وبذلك يُصبح مفهوم ما بعد الثورة وفق وظيفته «إعادة إنتاج خصائص النظام الاجتماعي» ووفق «افتراض بالتمام» من خلال إحلال وإبدال في مثلث دلالات عناصر قيمة البقاء، ووفق ضبط مرتبط بحلقتي الزمان والمكان.

ليصبح مسوغ «الإعادة» مرتبطاً بما تقتضيه حلقتا الزمان والمكان من خلال ظرفيات الرفض أو الميل إلى التغيّر والتغيير أو البحث عن كيفية الانتقال إلى مقتضى مختلف في مثلث دلالات العناصر.

ودلالة «الإعادة» تختلف عن دلالة «التكرار» ليس على مستوى النوع، فكلتاهما تندرجان تحت فئة «الآليات» الإجرائية،كما أن كلتيهما تشتركان في عناصر محتواهما، بل الاختلاف على مستوى «الوظيفة».

ومسألة الوظيفة تعتمد على «كيفية التعامل مع مثلث دلالات العناصر»، فكل عنصر يتشكل من ثلاثة أبعاد هي التي ترسم له «مثلث دلالاته» والذي يُنتج نوعية النظام الاجتماعي والشكل السياسي وخصوصية التجربة.

فالتكرار هو «نسخ التجربة الحياتية لما قبل» وهو ما يعني «نفي وجود» ما يُفترض أن يمثّل «ما بعد»، ولذلك أنتفض الشارع المصري عند ترشح اللواء «عمر سليمان» للرئاسة، لأنهم شعروا بأن قبول عمر سليمان هو تكرر نموذج» ما قبل» التي رفضته عبر الثورة.

كما أنه خدعة التكرار وحيلته، حيلة تحويل التكرار إلى إعادة،و الضحك على «خبرة الفاعل» بتغيير «لون الشكل»، فالثورة تمنح «خبرة الفاعل» ذكاء استباقي يتفادى من خلاله الوقوع في «مصيدة مثلث الدلالات» كما تمنحه القدرة على تحويل تلك المصيدة إلى أقدام معارضيه.

فليس كل تجربة صادرة من «ما قبل» محرضة على إنشاء تجربة «ما بعد» وليس كل تجربة صادرة بعد سقوط «ما قبل» هي ممثلة لتجربة «ما بعد»، وهذا ما يفسر لنا انتفاضة الشارع المصري في وجه ترشح اللواء عمر سليمان.

في حين أن الإعادة هي «إعادة إنتاج خصائص الأنظمة الاجتماعية وفق افتراض بالتمام» من خلال نموذج لا يحمل خصائص وصفات النموذج الذي ينتمي إلى «ما قبل».

«وكل «مثلث دلالة» بدوره يتشكل وفق «إستراتيجية تطبيقه» ما بين «التوازن» و»قوة الإفراط» و»الغياب»، وطريقة التطبيق لمثلث دلالات العناصر، وتلك الخصائص هي التي تحوّل مثلث الدلالات إلى مصيدة لكل مرحلة.

وتلك الإستراتيجية هي التي تتحكم في «إنتاج المراحل» مرحلة «ما قبل» ومرحلة «ما بعد» والمرحلة التي تقع بينهما.

ودلالات ذلك المثلث لا تطبق جميعاً داخل محيط زمني ومكاني واحد، بل يخضع تطبيقها وفق تراتبية زمانية ومكانية ولمقتضيات نهضوية أو إنقاذية أو انتقالية.

وتلك التراتبية والاقتضائية هي التي تُنتج مرحلة «ما بعد»، والتي أنتجت سالفاً «ما قبل» وهي التي تدفع إلى حدوث المرحلة التي تقع بينهما والتي تتصف «بالانتقال من «ما قبل» إلى ما بعد».

وهكذا يُمكن القول أن مسار «ما قبل وما بعد» يتشكلان وفق أبعاد مثلثات دلالات عناصر قيمة الوجود، والتي بدورها تتحكم في تشكيل أنظمة المجتمع، باعتبار أن النظام الاجتماعي هو الذي يتحكم في نوع التجربة، وبالتالي تصبح التجربة الاجتماعية هي نتيجة مصيدة مثلث الدلالات؛ لأن الدلالة هي دائماً التي تمثّل «مأزق» التفسير والفقه والتنظير، وهو ما يحول الدلالة إلى مصيدة للرأي والرأي الآخر.

إن كل ما يتضمن فضاء «قبل» هو نكرة بمعنى أنه لا يمثّل أنظمة أو تجربة، وكل ما يتضمن دائرة «ما قبل» هي «خصخصة» بمعنى أنه يمثّل إشكالية أنظمة أو تجارب تتصف «بملكية مؤقتة».

والأمر ذاته يُطبق على «بعد» و»ما بعد» فكل ما يتضمن فضاء «بعد» هو نكرة بمعنى أنه لا يمثّل حلاص لإشكالية أو معالجة لعيوب تجربة، وكل ما يتضمن دائرة «ما بعد» هو خصخصة بمعنى أن يُشرع على الافتراض حلولاً لإشكالية وإجرائيات لمعالجة عيوب التجربة، ويتصف «بملكية مؤقتة» لمنشئ التشريع».

ويشترك فضاء «قبل» و»بعد» في حملهما لإنتاج الفوضى، «قبل» فوضى الهدم، و»بعد» الفوضى الخلاقة».

وتشترك دائرة «ما قبل» و»ما بعد» في أنهما يمثلان المنظومة المعرفية لمثلث دلالات العناصر، إضافة إلى أن «ما قبل» هي التي تدفع إلى إنتاج «ما بعد» و»ما بعد» لا تُنتج إلا في ضوء سقوط المنظومة المعرفية لمثلث دلالات العناصر المهيمنة على تلك المنظومة. ل»ما قبل».

كما أن «ما بعد» كتجربة افتراضية تحتوي معايير قابلة للتمام إفتراضياً تتحول عبر التقادم إلى تجربة واقعية ذات معايير قائمة، وهو ما يؤهلها إلى التحول تدريجياً إلى مرحلة «ما قبل» وفق التغيير التعاقبي أو الطارئ لحلقتي الزمان والمكان المخصوصتين، وهكذا يتضح لنا أن كل مرحلة «ما قبل» كان أصلها «ما بعد»، وكل مرحلة «ما بعد» تحمل خصائص القبول لتصبح «ما قبل».

إن الحديث عن ثقافة ما بعد الثورة، يتضمن الحديث عن الخاصية المشتركة بين ثلاث مناطق» منطقة ما قبل» و»منطقة ما بعد» والمنطقة «التي تقع بين ما قبل وما بعد».

والخاصية هي «العقل الحسابي»؛ لأن الفراغ يستمد خصوصيته وتعريفه من الحدث الحسابي فما قبل» هو مجموع العمليات الحسابية التي تمثلها الأحداث والأنظمة القائمة كمعطيات يقينية، و»ما بعد» هو مجموع العمليات الحسابية التي يفترض تمثيلها من خلال استحداث الأنظمة الافتراضية عبر التأويل.

أما المنطقة الفاصلة بينهما فهي تمثل الذاكرة الحسابية التي تقوّم أنظمة «ما قبل» وتُعين على تحديد معايير العقل التأويلي ل»ما بعد»، وهي لا تعتمد على الفعل الحسابي الخاص بها؛ لأنها غير مؤهلة كفاعلية إنشائية وإن كانت تمتلك فاعلية المُقوّم والمُعيّن، ولذلك تكتسب خاصية الاختفاء وليست المجهولية فهي «تؤثّر ولا تُنتج»، ولذلك تتحول إلى مصيدة لمثلث الدلالات وتفرق أبناء الثورة.

«جزء من بحث كتاب للكاتبة».

جدة sehama71@gmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة