Culture Magazine Thursday  27/09/2012 G Issue 381
فضاءات
الخميس 11 ,ذو القعدة 1433   العدد  381
 
مراجعات في فقه الاحتساب (1 - 2)
عبدالله العودة

 

الأمة الإسلامية.. على مر التاريخ عاصرت أشكالاً مختلفة من الثقافات وجاورت عناصرَ مختلفة دينياً وخلفيات متباينة وأعراقاً كثيرة، ومع كل هذا إلا أن فضيلة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» كانت حاضرة ومؤثرة.

هذا يعني شيئاً مهماً هو أن «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» مبدأ له خصائص تميزه وتجعله عاماً وشعبياً وفي في نفس الوقت تقوم به «أمة» من الناس مما يوحي بخصوصية هؤلاء الأمة وأهميتها.

إلا أن التعبير القرآني الإسلامي كان عظيماً وفريداً.. فهو ليس أمر بالخير ونهي عن الشر..

بل أمر بالمعروف (من هذا الخير) ونهي عن المنكر (من هذا الشر).. فالمعروف معنى أدق من الخير وأخص، كما ورد في القرآن التفريق بينهما في آية واحدة والتعبير بالدعوة عن الخير.. بينما التعبير بالأمر عن المعروف في قوله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}.. ولذلك فإن المعروف والمنكر مرتبطان باتفاق أكثر الناس وفقهائهم على هذا النوع المعين من الخير وعلى هذا النوع المعين من المنكر ليتم الأمر بالأول والنهي عن الثاني.. وهذا ما يوضح المقولة التراثية الشهيرة حول «لا إنكار في مسائل الخلاف» التي وإن تحفظ بعضهم على لفظة «الاختلاف».

ولهذا كان «معروفاً ومنكراً»، وفي ألفاظ القرآن «فلينفق بالمعروف» فعرف الفقهاء والمفسرون المعروف بأنه ما تعارف الناس عليه من قدر النفقة بيد أن المعروف عموماً ليس هو كل ما تعارف عليه الناس بل ما تعارف المسلمون على خيريته، وكون مفردة «الناس» حاضرة هنا يشعر بأهمية فهم الناس وعمومهم وأغلب المسلمين.. مما يقود إلى ملاحظة الممارسات الكثيرة التي تقع في نطاق «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» الحالية والتي تنصبّ في الأغلب في نطاق «الخلاف» الفقهي بين الأئمة الأربعة.. أو بين كبار الفقهاء المجتهدين؛ فهذا النوع من الأمر والنهي هو أمر برأي فقهي محدد ونهي برأي فقهي، وليس أمراً بجملة المعروف ونهي عن جملة المنكر.. فالمعروف من الخير هو أصول الأخلاق وأصول العبادات وأصول المعاملات والقواعد الشرعية المعروفة والأعمال الدينية المعروف خيرها، وليس الخلافات الفقهية الدقيقة؛ فتحويل شعيرة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» إلى أمر برأي فقهي محدد هو شكل تقليدي للتعصب للرأي والدعوة لترجيحات شيوخ دون آخرين بغض النظر عن ذلك الرأي هل هو أمر بالاختلاط أو نهي عنه.. أمر بتغطية الوجه أو كشفه.. أمر بلبس شكل معين للعباءة أو نهي عنه.. أو غير ذلك.

لأجل كل تلك الحمولات المفاهيمية المتعلقة بمعنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن تطوير أسلوب الأمر بالمعروف ضرورة حاضرة ليس لأن الأدوات تتطور فحسب بل لأن فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبطة بالناس وبالخير المعروف بينهم وبالمنكر المعروف بينهم..

وهذا ما قاد الفقهاء والعلماء في التراث الإسلامي إلى تفعيل أحد أهم أدوار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو «الاحتساب على السلطان».. وهو كأنه إشارة إلى ما تحدث بشكل مفصل عنه د. محمد العبدالكريم في كتابه «الاحتساب المدني» في الحديث عن دور الرقابة المدنية على المؤسسات وعلى أشكال الممارسات الرسمية من قبل هيئات مدنية وأهلية وكون هذه المعاني تستلهم شرعيتها من هذا المفهوم الحيوي المدني «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».

الاحتساب على السلطان كما تعرض لها الماوردي والفراء وابن عقيل وابن القيم وغيرهم هي فكرة توضيحية تراثية لمهمة الهيئات المستقلة المعاصرة في المجتمع والناشئة منه للقيام من هذه الأمة بالاحتساب على السلطة الإدارية والسياسية وعلى أعمالهم وممارسة «النقد» الواضح لها ومحاولة بيان رأي «الناس» وحقوقهم والقيام على رعايتها وحفظها وحفظ الضرورات من الدين والنفس والعقل والمال والعرض والحرية.. وهو الشيء الذي كان حاضراً في فترات مختلفة من التاريخ الإسلامي ومارسه كبار الناس والفقهاء بل والوعاظ والتجار وأصحاب الوجاهة الاجتماعية وعامة الناس وأفرادهم.

وللأسف الشديد مع مرور الوقت تم تحييد فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحويلها من هذه الاحتسابات المدنية والشعبية لتفعيل دور الناس والمجتمع.. إلى الاحتساب على المجتمع فحسب والترصد لأفراده في مسائل قد تكون خلافية وجدلية، ومن الدفاع عن حقوق الناس وحرياتهم للتراجع عن هذه الخدمة المهمة..

في تضاعيف كتاب د. العبدالكريم.. تحدث عما أسماه «الاحتساب المشوه»، فأختم بحديثه هنا حيث يقول:

«بدل أن ندافع عن الاحتساب المشوه، والممانعة المتخلفة، ونقف خلفها صفوفاً متراصة، ونتهم المخالفين بأسوأ النوايا وأقبح الصفات، فإن في الدعوة للاحتساب أو الجهاد المدني، تحقيقا لمقاصد الشريعة ونصرة للدين وإقامة للعدل وردا للمظالم، فإذا قام الناس بالفريضة على هذا النحو، وأفنوا أعمارهم من دون عنف مسلح، وضحوا بأنفسهم وأموالهم داخل أوطانهم لأجل التغيير والإصلاح، فقد بدأت الأمة في الأخذ بالسنن الإلهية الربانية في الإصلاح..».


abdalodah@gmail.com

أميركا


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة