Culture Magazine Thursday  27/09/2012 G Issue 381
فضاءات
الخميس 11 ,ذو القعدة 1433   العدد  381
 
نحو مصر
فيصل أكرم

 

أولى زياراتي لمصر كانت في بدايات عهد الرئيس حسني مبارك وآخرها كانت في نهايات عهده، وبهذا أكون لم أقف على أرض مصر حتى الآن إلاّ في عهده.. وحديثي هنا عن مصر لن يكون إلا من الناحية الثقافية التي تهم كل إنسان في المنطقة العربية التي لمصر دورٌ رياديٌّ فيها دون شك، فمكتباتنا تمتلئ بالكتب التي كنا نسافر إلى مصر من أجل شرائها منها، ووسائلنا الإعلامية كلها ترتكز على ما تطرحه مصر من ثقافة وفن منذ مطلع العصر الحديث الذي نقف الآن على بوابات انتقالنا منه إلى عصر لا نزال نجهل مكوناته..

حدث التغيير الكبير في مصر، ونجحت الثورة على العهد، وبدأ العهد الجديد في محاولة اعتماد دستور جديد للبلاد، وقد نقل تلفزيون (صوت الشعب) المصري على الهواء قبل أسابيع جلسة استماع للفنانين والمثقفين عقدتها لجنة الحوار بالجمعية التأسيسية للدستور المصري الجديد، وقد كانت الجلسة غاية في المتعة والإدهاش، إذ بخلاف الجدل حول المضامين، كانت صياغة الدستور تحتاج إلى دقة في النحو (اللغوي) لم يتمكن من إتقانها الأعضاء في اللجنة من أساتذة اللغة بينما كان الفنانون هم الذين بادروا إلى التوقف عند الأخطاء (النحوية) الفادحة وتصويبها، حيث كادت أن تؤدي إلى اختلافات كبيرة وخطيرة في المعاني التي يقصدها واضعو الدستور الجديد.. فرأينا كيف أن الفنان حين يتقن أدوات فنه فإنه يكون بمثابة مرجعية حقيقية تتجاوز المرجعيات الأكاديمية التي تنتهي عند حدود الأداء الوظيفيّ المتجمّد..

وعلى هذا (النحو) أيضاً، شاهدنا جميعاً قبل شهور عبر القنوات الفضائية، جلسة النطق بالحكم على الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك، واستمعنا إلى الكلمة التي ألقاها القاضي أحمد رفعت قبل النطق بالحكم، وكانت الكلمة مليئة بالأخطاء (النحوية) التي استغربتها لحظة استماعي لها، فقد كانت كثيرة جداً على لسان القاضي، وبعضها يسبب اختلالاً في المعاني (والجلسة موثقة في يوتيوب بإمكان من يرغب في إحصاء الأخطاء النحوية العودة إليها!) فنحن اعتدنا أن القضاة لدينا قد درسوا اللغة كمادة أساسية حتى أصبحوا ضليعين فيها، ولكن.. ربما في البلدان المجاورة تكون دراسة القانون هي الأساس، بغض النظر عن اللغة والنحو؟ الله أعلم.

ما دعاني إلى التوقف عند هذه الملاحظات الصغيرة بهذا الاستغراب الآن، هو ذلك الهجوم الشرس على الفن والثقافة والأدب والإبداع بكل أشكاله في مصر تحديداً، حتى بدأ يتفشى بين الناس رأيٌ متطرفٌ جداً، يروّج لمقولات تدّعي بأن كل الفنانين والمبدعين ليس منهم أيّ خير على المجتمع (!) ومع الأسف فقد شاركنا من دون أن ندري في تشكيل مثل هذا الرأي بانتقاداتنا لأيّ فنان ممثل حين يلحن في نطق جملة بالتشكيل النحوي الصحيح أثناء أدائه لشخصية تاريخية، وكذلك لم نرحم أي فنان مطرب إذا أخطأ نحوياً في كلمة من قصيدة يغنيها.. ونتهمهما بإفساد الذوق العام وتشويه لغتنا العظيمة (!) وفي المقابل نغضّ الطرف دائماً عن الأخطاء التي يقع فيها بعضُ من كانت وظيفتهم أن يعلموا الناس ما يجنبهم الوقوع في مثل هذه الأخطاء (؟!) والمسألة التي أعنيها هنا ليست مجرد لغة ونحو، بل هي مسألة (وعي) أولاً وأخيراً.. فمن يمتلك وعياً متكاملاً قد يخطئ خطأ عابراً في غير مجاله وحرفته، ولكن من يفتقد الوعي أساساً فهو من يكرر أخطاءه مرات ومرات في أبجديات تخصصه ومهنته من دون أن يرفَّ له جفن!

ختاماً أقولُ: إنّ بلاداً تزخر بالفن وأهله، كمصر، لا خوف عليها من أيّ أخطاء (كبيرة كانت أو صغيرة) لأن المبدعين هم من يصوبون كل الأخطاء بوعيهم.. ومن يراجع الأرشيف الفني والأدبي جيداً، سيجد أن المبدعين من الأدباء والفنانين هم أول من فتح النوافذ والأبواب ورفع السقوف لكل التطلعات التي لم يتحقق إلاّ بعضها حتى الآن.. فقط اعطوهم مزيداً من جلسات الاستماع، من أجل مجتمع متطوّر نحلم به يقترب (وسيقترب حتماً، برغم كل الشكليات المتطرفة) نحو المنطقة العربية كلها..

ffnff69@hotmail.com

الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة