Culture Magazine Thursday  27/09/2012 G Issue 381
فضاءات
الخميس 11 ,ذو القعدة 1433   العدد  381
 
اعتزال الثقافة
انتقال الفقيه الثقافي إلى السياثقافي
ياسر حجازي

 

(أ)

بين الاعتزال يأساً وبين الاعتزال فلسفةً فإنّ ثمّة مساحة لا بأس بها يتقاطع فيها اليأسان وأخرى يفترقان؛ والظنّ بأنّ اليأس سلبيّة إنّما هو محض تأويل يخصّ أصحابه، والظنّ بأنّ الفلسفة كفرٌ كذلكم تأويل يخصّ الغزالي وأتباعه. ولأَنَّ الجِدَّة لا تكون في الفكر إنّما فيما نتداوله نقاشاً وجدالاً على نيّة صلاحيّة إخراجه من عالم الأفكار إلى قوّة تنفيذه في عالم الواقع. فإلى أيّ مدى نشكّ في فاعليّة الثقافة حين تكون الأفكار والأسئلة التي نتجادل حولها (هِيَّةً: هي هي)؟ وكيف الرهان على جماد لا ينتقل من التنظير إلى التنفيذ، وإلى أيّ مدى يملك الفقيه الثقافي قدرة على الإنجاز السياسيّ؟

(ب)

تناقش اتجاهات حالة (مابعد الثقافة) على مستوى (الفرديّة) المآزق التي خلّفتها عدميّة الإنتاج الثقافيّ التغييريّ ومأساة تنظيرات الثقافة أمام قوّة أعراف المجتمع وابتعاد الثقافة عن الدور السياسي؛ بطرح بدائل عمليّة فعليّة عدّة: (أ) انتقال الثقافي إلى سياثقافي، لأنّ الثقافة آلت فكراً عقيماً عن الفعل والوظيفة، والمنتمون لها غائبون بالأكثريّة عن الوظيفة السياسيّة في التغيير والإصلاح، فالفكر الثقافي مسلوب الفعل ويعتمد على ردّة الفعل. (ب) تجاوز عقدة خصوصيّات الثقافة دون الدخول في غيرها. (ج) اعتزال المجتمع بسبب اشتراطاته الثقيلة، ووقوفه عائقاً في ظهور الفرديّة المستقلّة. (د) إزاحة المجتمع كوسيط بين الفرد والدولة.

وأيّا كانت اتجاهات مابعد الثقافة من (السياثقافيّة أو الفرديّة الذكيّة حتّى الاعتزاليّة) فإنّ التحوّلات الطارئة على الأفراد في المجتمعات العربيّة لا يمكن تجاهلها. وصحيح أنّها لا ترقى حتّى الآن إلى مستوى الحدّ من التطرّف الجماهيري الناجم عن جمود المجتمعات العربيّة نفسها لأنّ (التحوّل والتغيير) قد طرأ على أفراد في المجتمع بينما بقي الأخير كتلة ثقيلة تعيق الدولة والفرد؛ فالفرديّة تعي قيمة الفعل وتُعلي من شأنه، بينما المجتمع يُعلي من قيمة ردّة الفعل، وهذا التفريق أساس في رهانات الفرديّة الذكيّة في تقاربها مع الدولة كبديل عن جموديّة المجتمع، حيث إنّ الفعلَ وعيُ حضور إنساني يمثّل الاستقلال، بينما ردّة الفعل غريزة تستغلها التبعيّة وهي أداة (مجتمعيّة) استبداديّة تسلب العقل حريّته وتخضعه للبرمجة الثنائيّة القاتلة: بحيث يكون الخيار بين الفرديّة أو الجماعة، وفي هذا التخيير استبداد عنيف بدأت الفرديّة الذكيّة تخرجه منه باتّجاه (احتمال ثالث) يصون الفرديّة ولا يؤثّر على المجتمع الافتراضي.

إنّ استقلال الفرديّة حالة فوق الثقافة والمجتمع، يتسارع تشكيلها وانتشارها، وتنبع أهميّتها أنّها مسؤولة عن التخفيف من حدّة استبداد المجتمع عبر مواجهته بذكائيّة، لأنّ وجود الواقع الفضائي جعل من الممكن إزاحة المجتمع كوسيط بين الفرد والدولة في الواقع الأرضي، إذّاك تقيم الفرديّة الذكيّة علاقات مباشرة مع الدولة بين مُمثِّلين وممثَّلين دون وسيط مستبد في خصوصيّاته وأقانيمه. وتلك التحوّلات والتغييرات الطارئة على الأفراد في المنطقة العربيّة على تفاوت نسبها (بحيث إنّ التحوّل إصلاح داخل التأويليّة الخصوصيّة للثقافة، بينما التغيّر انتقال من ثقافة إلى أخرى) تشكّل حالة بينيّة انعتاقيّة، لم يقدر الثالوث الاستبدادي من الحيلولة دون نشوئها. وكم من قوّة لحالة قد سُدّت كلّ المنافذ بوجهها إلاّ أنّها خرجت عبر قنواتٍ وطرقٍ، لكم ظنّت السلطة الثالوثيّة أنّها تحت رقابتها ومأمنها، وقديماً قالوا: (من مأمنه يؤتى الحذر)؛ لكنّ (الحالة) موجودة الآن، وانتهى الأمر. فلا يوجد اليوم نظام عربي يستطيع الردّة إلى (ماقبل) لأنّ (نفعيّة) المجتمعات لأفرادها مشكوك فيها بقوّة بعد النتائج الكارثيّة التي سلبت من الفرد حقوقه وجعلته مكبّلاً بالواجبات فقط وبالعوز اليوميّ؛ وبعد استغلال هذه الحالة من السياسي والديني دون مواجهة من أحد.

(ج)

إلى أيّ مدى تقدر حالة مابعد الثقافةالذكائيّة في تجاوز المجتمع باتّجاه الفرديّة الذكيّة، فإنّ أيّاً من ادّعاءات المجتمع عن قيم الفرد تبقى (دون الفرديّة الذكيّة المستقلّة)، (ودون الفرديّة القيّمة التاريخيّة)؛ وهذه الدونيّات ضغطت على الأفراد حتّى تجاوزوا مسائل المجتمع (المعقّدة والجنونيّة أحياناً) إلى مسائلهم، والتي يشاع عنها أنّها تخالف الدولة بينما هي تتقارب معها دون وساطة الأبويّة الرعويّة البطركيّة.

لم يَعُد الشكّ في جدوى القطيع مسألة محظورة أو مخفيّة، العلانيّة ميزة الواقعيّة الفعليّة في الفكر الفردي المستقلّ؛ ومفاوضات مابعد الثقافة اليوم هي من مسؤوليّات الهُويّة الشخصيّة بكلّ تناقضاتها، بحيث تزداد الثقة المعرفيّة والمعلوماتيّة والوسائليّة أنّ الحالة الفرديّة الذكيّة قادرة على إدارة مصالح الأفراد وليس بالمفهوم الطوباويّ لنهاية التاريخالصراع فهما لا ينتهيان لارتباطهما بالإنسان بل إلى نهاية الثقافة المتمثّلة بردّة الفعل، وتحويل الثقافي إلى سياسيّ أو سياثقافي، فإن كان سوء السياسيّ أنّ في بضاعته فساد ففيها صلاح أيضاً لأنّها (فعل)، بينما بضاعة الثقافي فقيرة لا يشتريها حتّى الفقراء.

وهذا الانتقال من الثقافي إلى السياثقافي أداة الفرديّة الذكيّة للخروج من وصاية المجتمع ومواجهة فرادة السياسيّ وتسييس الديني، وهو لا يعني معاداة المجتمع وتهديد وجوده، فإنّ أيّ عداء للمجتمع إنّما يتضمّن بالمقتضى خروج المعتدي منه ودخوله في آخر؛ أمّا الفرديّة فإنّها لا تعادي المجتمع ولا يعنيها مغادرته على نيّة الذهاب إلى غيره، بل باتّجاه مصالحها ومصالح الدولة، وتجاوز الوساطة بين الدولة وبينها، لأنّها في المحصلة لا تثق بوجود المجتمع الماديّ إلا على مستوى الأعراف، وتجاوز تلك الأعراف يعني زواله؛ فأين مثلاً هو المجتمع ماديّاً بعيداً عن تأثيرات أعرافه؟! فالقيمة الإيجابيّة الإنتاجيّة لدى عقليّة الفرديّة الذكيّة هي للتشريع وما يُشرعن، وهو الممثل في الدولة، وليس في الأعراف مُمثّلة المجتمع. إنّ الثقة بالمجتمع تراجعت لدى أفراده أنّه لم يعد مؤهّلا لإدارة مكوّناته وقد آل عبأً وسلبيّةً في إفراز التطرّف وردّة الفعل العمياء، بينما تزداد الثقة في الفرديّة أنّها مؤهّلة أكثر للقيام بهذا الدور، فالمسؤوليّة تثبّت الحضور، والمنطق يقول أنّ المجتمع لا يتحمّل مسؤوليّة أعرافه لأنّه بلا شخصيّة مستقلّة؛ فمَن لا مسؤوليّة له لا أهليّة قانونيّة لوجوده وعقوده، فكيف يُتْبَعُ؟!

(د)

إذا ما أراد الفقيه الثقافي أن يكون فاعلاً تغييريّاً وإصلاحيّاً فإنّ الحاجة إلى انتقاله من الثقافة إلى السياسة تغدو ضرورة إصلاحيّة بحدّ ذاتها، لأنّ ردّة الفعل ليست وظيفة واعية تُحدث إصلاحاً، وهي حدود الفكر الثقافيّ المتورّط بكونه ردّة فعل تنظيريّة لأفعال واقعيّة للثالوث الاستبدادي: (السياسي، الاقتصاديّ، الديني)؛ والاستبداد هنا بمعنى حصريّة التنفيذ والفاعليّة المحصورة لهؤلاء النافذين أصحاب القوّة وعدم إعادة تداولها، وما يتبعها من مكتسبات تتأثّر بالقوّة (كالحريّة، الملكيّة، الأخلاق، الإصلاح، التغيير..)؛ وهو ما يفتقده الفقيه الثقافي بجعل المداولات الفكريّة تنظيراً عاجزاً عن الفعل؛ فإنّ كان للفقيه الثقافي مشروعاً أو رغبة في المشاركة بالإصلاح فلابدّ أن يتطوّر من ردّة الفعل إلى الفعل، من عاطل عن الوظيفة إلى الوظيفة، وهو ما يشحّ في النطاق الثقافي؛ فالواقع الفعليّ السياسي أقوى فاعليّة من المفاهيم، وهو ما يعطي قيمة للحضور السياسيّ على الحضور الثقافي. إذّاك فإنّ الانتقال إلى العمل السياسي هو الضامن لتحقيق مشروع إصلاحي أو المشاركة فيه، لأنّ السياسة والسياسة وحدها في نهاية الأمر لها كلمة الفصل.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة