Culture Magazine Thursday  27/09/2012 G Issue 381
ترجمات
الخميس 11 ,ذو القعدة 1433   العدد  381
 
عندما تحمي منظمات المجتمع المدني مصالح الناس  1- 4
جمعية «لا يوجد غداء مجاني» تكشف أساليب التسويق الخطرة لشركات الأدوية التي تُحول الأطباء إلى إعلانات متحركة
د. حمد العيسى

 

إهداء إلى: د. عبد الله الغذامي تقديرا لدوره في نشر الوعي وإطلاق مبادرة «مسكني»

***

كتبت هذا البحث القصير بوحي من مقال قرأته في مجلة مذر جونزMother Jones الأمريكية المرموقة والمتمردة لعدد صدر عام 2003 وقرأته بالصدفة عام 2008، وجميع المعلومات التفصيلية (الأرقام والإحصاءات) هي نتيجة بحثي الخاص بعد قراءة المقال وتعود لعام 2008 تحديدا. وأرجو أن تجد رسالة المقالة صدى إيجابيا لدى الناس الذين يراجعون الأطباء وبالتالي يقومون بفحص مكاتب الأطباء بحثا عن مؤشرات تلك الأساليب التسويقية، وهدفنا الضغط الإيجابي لوضع أنظمة تحد من تلك الأساليب الخطرة التي سنوضحها هنا. والله من وراء القصد.

جمعية «لا يوجد غداء مجاني»

بلغت مبيعات الأدوية عالمياً عام 2006 حوالي 602 مليار دولار، وكانت حصة الشركات الأمريكية وحدها 252 مليار دولار تقريباً أي ما يعادل 42% من مجمل المبيعات العالمية. وأنفقت الشركات الأمريكية 19 مليار دولار لتسويق أدويتها بشتى الطرق ويوجد حالياً تقريبا 100,000 مندوب مبيعات في أمريكا تقريبا يقومون بتسويق الأدوية لحوالي 830,000 ممارس لمهنة الطب. أي أن صناعة الدواء الأمريكية تصرف ما يعادل 23,000 دولار تقريباً سنوياً لكل ممارس للطب في عملية التسويق. وقدرت إحدى الدراسات أن عينات الأدوية المجانية بمفردها بلغت تكلفتها 11 مليار دولار تقريباً. ومن البدهي وكما يعرف كل من درس علم الاقتصاد أن تكاليف عملية التسويق الضخمة يتحمل قيمتها في النهاية المريض حيث تدخل ضمن قيمة الأدوية المباعة له.

ولمعرفة ما تنطوي عليه هذه الأرقام الفلكية التي يتم صرفها في عملية تسويق الأدوية في أمريكا على وجه الخصوص والعالم بصورة عامة، أجد من المناسب بل الضروري الحديث عن الطبيب الأمريكي بوب غودمان. وغودمان طبيب باطني استشاري، ويُدرِّس في كلية الطب التابعة لجامعة كولومبيا في نيويورك.

يذكر غودمان في موقعه على النت أنه بدأ يحس بالانزعاج من أساليب تسويق شركات الأدوية منذ أيام دراسته الطب في أواخر الثمانينيات من القرن المنصرم. فقد كان يشعر بعدم الراحة عندما يأكل البيتزا الذي يقدمها مندوبو شركات الأدوية للطلبة أثناء السيمنارات العلمية في وقت الغداء وفي الرحلات الطلابية.

أنشأ غودمان في عام 1999 عيادة طبية خاصة لعلاج ذوي الدخل المنخفض في منطقة مانهاتن في مدينة نيويورك. وقرر غودمان بشجاعة فور افتتاح العيادة منع دخول مندوبي شركات الأدوية إلى العيادة لأنه يعتقد أنه يجب على الأطباء عدم قبول عينات أدوية مجانية أو هدايا من شركات الأدوية لكون ذلك يشكل «تضارب مصالح» Conflict of Interest واضح وصريح بالنسبة للأطباء. وأصر غودمان على هذا القرار رغم كونه يعني حرمانه شخصيا من الحصول على كثير من عينات الأدوية المجانية التي يمكن إعطاؤها للمرضى الفقراء الذين لا يملكون تأميناً صحياً وهم كثر طبعا.

وأسس غودمان في عام 2000 جمعية مناصرة Advocacy Group وتعتبر من منظمات المجتمع المدني لنشر فكرته باسم رمزي ذكي ومثير هو:

لا يوجد غداء مجاني

No Free Lunch

وهي جمعية غير حكومية وغير ربحية لها هدفان رئيسان هما: أولا، أن لا يعتمد الأطباء عند وصف الأدوية على معلومات شركات الأدوية التسويقية، وثانياً: عدم قبول هدايا من هذه الصناعة. ويضيف غودمان: «إنهما هدفان مرتبطان ببعضهما. فسوف يقل عدد الأطباء الذين يحصلون على معلومات طبية من مندوبي المبيعات إذا لم تأت مع غداء أو نقود».

وتشير إحدى الدراسات إلى أن موظفي شركات الأدوية يتوزعون كالتالي: 39% للتسويق، و26% لمراقبة الجودة، و22% للبحث والتطوير، و13% للإدارة وغيرها. وكما هو واضح من هذه الأرقام، فقطاع التسويق يعمل فيه أكبر عدد من الموظفين بل والمفارقة أن عددهم أكثر من قطاع «البحث والتطوير» Research AND Development الهام الذي تقع على عاتقه مهمة اكتشاف الأدوية الجديدة وتحسين الأدوية القديمة.

وتضيف نفس الدراسة أن أرباح شركات الأدوية بالنسبة لمجمل الدخل هو الأعلى بين جميع الصناعات حيث بلغت هذه النسبة 19% تقريباً بينما بلغ معدل أرباح باقي الشركات في مختلف الصناعات والخدمات 5% تقريباً حسب أرقام عام 2000. (ملاحظة: تمت المقارنة السابقة بين الشركات الموجودة في قائمة أفضل 500 شركة التي تنشرها سنوياً مجلة فورتشن Fortune الأمريكية المتخصصة بالأعمال).

وتؤكد الجمعية أن أساليب التسويق المستخدمة من قبل شركات الأدوية تؤثر سلبياً على طريقة الأطباء وغيرهم من مقدمي الرعاية الصحية في وصف الأدوية. والجمعية تسعى لإقناع الأطباء لرفض قبول الهدايا من شركات الأدوية. وتشمل هذه الهدايا: عينات أدوية مجانية، ورحلات سياحية، ووجبات طعام، وأدوات مكتبية، وأدوات طبية، ونقود مقابل استشارات أو إلقاء محاضرات لترويج أدوية، وتذاكر مجانية للمسرح والمناسبات الرياضية الهامة. وتؤكد الجمعية أن دراسات علم الاجتماع تدل على أن تلك الهدايا تؤسس علاقات، وتخلق «شعوراً بالواجب على الممارس الطبي تجاه المُهدي أي شركات الأدوية حيث تؤدي حتما إلى محاولة رد الجميل بطريقة ما. ولهذا تكون هذه الهدايا ذات تأثير سيكولوجي كبير يفوق ثمنها الحقيقي مهما كان قليلاً.

وتؤكد الجمعية أن الأطباء قد يميلون إلى وصف الأدوية التي يتم تسويقها لهم بدلاً من الأدوية الأفضل أو الأرخص لأنهم مدينون لشركات الأدوية التي قبلوا منها الهدايا. وتشدد الجمعية أيضا على أنه لا ينبغي للأطباء قبول عينات أدوية مجانية من شركات الأدوية لإعطائها للمرضى لأن الجمعية تعتقد أن تلك العينات تسبب قيام الأطباء بوصف تلك العقاقير أكثر من غيرها. وتحث الجمعية الأطباء على الاعتماد على الحصول على مواد تعليمية «مستقلة» عن الأدوية بدلا من المواد التعليمية التي تقدمها شركات الأدوية كمصدر للمعلومات عن أدويتها. كما تدعو الجمعية إلى الاستغناء عن تمويل شركات لأنشطة مواصلة التعليم الطبي والمؤتمرات العلمية.

والجمعية لا تلوم محاولة شركات الأدوية تسويق منتجاتها بل تعتقد أن ذلك من مهام تلك الشركات. ولكنها تعتقد أن الأطباء يسمحون لأنفسهم بأن يتأثروا بذلك وتتم السيطرة عليهم «لاشعورياً» بواسطة هؤلاء المعلنين.

وتضم الجمعية حالياً آلاف الأعضاء من مختلف أنواع العاملين في مجال الطب. ورغم صغر حجم الجمعية إلا أنها بدأت تشكل إزعاجاً لشركات الأدوية والجمعيات الطبية المهنية التي تعتمد في تمويل نشاطاتها على دعم شركات الأدوية. ولذلك أطلقت مجلة «مذر جونز» المرموقة على غودمان «باعث الجحيم» Hellraiser! فقد رفضت «الأكاديمية الأمريكية لأطباء الأسرة» في عام 2005 تأجير جناح إلى الجمعية في مؤتمرها العلمي السنوي. وقال المتحدث باسم الأكاديمية إن الحوار بين الأطباء والعارضين - ومعظمهم من شركات الأدوية - هو أمر هام وصحي، وأن جمعية «لا يوجد غداء مجاني» تسعى للقضاء على هذا الحوار. وخلال اقل من أسبوع، تعرضت الأكاديمية إلى ضغوط هائلة من أعضائها الذين ضغطوا عليها لتأجير الجناح للجمعية. وبالفعل، وافقت الأكاديمية مضطرة على تأجير جناح للجمعية خوفا من انصراف أعضائها عنها. وكذلك رفضت «الجمعية الأمريكية للأطباء» مؤخراً تأجير جناح للجمعية في اجتماعها السنوي.

وقامت الجمعية بحملة رمزية تحت مسمى «العفو عن القلم» حيث شجعت الأطباء على إعادة الأقلام التي تحمل شعارات شركات الأدوية إليها وتقوم الجمعية بالتالي بإرسال أقلام وأكواب وهدايا رمزية عليها شعار الجمعية إلى هؤلاء الأطباء.

وتؤكد الجمعية أن السيمنارات التعليمية للأطباء التي تجري أغلبها في أوقات الغداء في كليات الطب والمستشفيات وتمولها شركات الأدوية هي أهم طريقة إعلانية حيث تعرف ب «التسويق مباشرة إلى الطبيب»، ويقوم فيها مندوب شركة الأدوية بالتواصل مع الأطباء وتوفير معلومات ترويجية مجانية ومغرية لهم مثل: عينات أدوية مجانية، ومعلومات طبية، وهدايا بسيطة مبتكرة مغرية ومنوعة ويحتاجها الأطباء في مكاتبهم.

وتحتج شركات الأدوية - بحق - بأن الاجتماعات بين مندوبي الشركات والأطباء هي وسيلة هامة لتثقيف الأطباء عن مزايا منتجاتها، وأن شراء وجبات الغداء للأطباء قد يكون الفرصة الوحيدة المناسبة لهذه الاجتماعات بسبب جدول الأطباء المشغول. وتؤكد أيضاً أن عينات الدواء المجانية يمكن إعطائها إلى المرضى المعوزين.

ويجادل بعض الأطباء أنهم لا يتأثرون بتسويق شركات الأدوية، وأنه بالتالي ليس من الضروري أن يرفضوا الهدايا من تلك الشركات.

ولكن غودمان يؤكد بمكر: «إذا نظرت عشوائياً إلى أكوات الأطباء البيضاء، سترى أقلام عديدة في جيب كل طبيب، وأحيانا سماعة طبية، وكل منها يحمل شعار شركة أدوية!! فمعظم الأطباء إعلانات متحركة!». ويؤكد غودمان أن الجمعية «تخسر مادياً، ولكنها طريقة ممتعة لنشر رسالتنا».

ورغم أن التقارير السيئة في الصحافة أجبرت شركات الأدوية على تخفيض قيمة هداياها الفاخرة للأطباء مثل قضاء الإجازات المكلفة في جزر البحر الكاريبي، إلا أن غودمان يقول إن ولائم العشاء الفاخرة، وتذاكر العروض المسرحية في برودواي، وتذاكر المباريات الرياضية الكبرى (مثل السوبر بول أي نهائي كرة القدم الأمريكية) تبقى أشياء مألوفة بالنسبة للأطباء للأسف.

ويضيف غودمان: «يشعر الأطباء بالامتعاض عندما تُلمِّح لهم أن تلك الهدايا البسيطة تؤثر على طريقة كتابة وصفات الأدوية». ولكن غودمان يشرح بثقة: «ولكنها تؤثر بكل تأكيد وإلا لم تكن شركات الأدوية تنفق 19 مليار دولار على إنتاج تلك الهدايا سنويا!!».

وفي الواقع، يؤكد غودمان بأن هناك دراسات نفسية واجتماعية عديدة أكدت أن الهدايا ووج بات الطعام تحث وتحفز الأطباء «لاشعورياً» وبرفق لوصف أدوية معينة، حتى عندما يكون هناك أدوية أفضل وأرخص!!

ويذكر غودمان حالة أحد أدوية ضغط الدم مثل عقار نورفاسك من إنتاج شركة فايزر العملاقة الذي يكلف دولارين للحبة الواحدة. ففي ديسمبر 2002، نُشرت دراسة أكدت أن هذه الأدوية ليست بمثل فعالية عقار ثيازايد ديوريتيك ذي التكلفة الزهيدة، ولكن، بالرغم من هذا، فإن دواء فايزر الأكثر تكلفة والأقل جودة، والذي تم الإعلان عنه وتسويقه للأطباء بكثافة، هو الذي تم وصفه للمرضى أكثر من غيره بصورة كبيرة. ومن المعلوم أن شركة فايزر Pfizer الأمريكية أسست في نيويورك عام 1849. وتعتبر أكبر شركة أدوية في العالم من حيث المبيعات حيث بلغ دخلها عام 2006 حوالي 49 مليار دولار وأرباحها 20 مليار دولار، ويعمل فيها 106 ألف موظف وموظفة. ولعل من المناسب ذكر قضية احتيال طبي تورطت فيها فايزر وتؤكد النهج الميكافيلي لشركات الأدوية. ففي محاكمة جرت في سبتمبر 2009، أقرت شركة فايزر بأنها مذنبة Guilty في قضية تسويق غير قانوني لدواء بكسترا Bextra لالتهاب المفاصل لكونه لم يعتمد للاستخدام من قبل إدارة الأغذية والعقاقير الأمريكية FDA، ومن ثم وافقت فايزر على دفع تسوية لوزارة العدل بمقدار 2.3 مليار دولار، في واحدة من أكبر قضايا الاحتيال الصحي العالمية حتى ذلك الوقت.

Hamad.aleisa@gmail.com

 المغرب


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة