Culture Magazine Thursday  27/12/2012 G Issue 391
فضاءات
الخميس 14 ,صفر 1434   العدد  391
 
أزمة الشعر والشعراء 2-6
معظم القراءات الشعرية اليوم هي احتفالات بـ «الأنا» أكثر من الشعر
د.حمد العيسى

 

نواصل مع الجزء الثاني من مقالة «أزمة الشعر والشعراء» للشاعر والناقد الأمريكي مايكل دانا جويه:

كان ويلسون محللاً مقتدراً للاتجاهات الأدبية. وقد تم مهاجمة تقييمه المتشكك في دور الشعر في الأدب الحديث بصورة متكررة خلال نصف القرن الماضي، ولكن لم تُفند آراؤه أبداً بصورة مقنعة. حجته وضعت القواعد الأساسية لجميع المدافعين اللاحقين عن الشعر المعاصر. كما إنها أيضاً وفرت نقطة انطلاق لمتمردين لاحقين ابتداءً من الشاعر ديلمور شوارتز حتى كريستوفر كلوسن. وأحدث وأشهر هؤلاء المراجعين هو الناقد جوزيف إبستين، الذي نشر مقالته النقدية الحادة «من قتل الشعر؟» لأول مرة في مجلة كومنتري عام 1988. وأعيد طبعها في وقائع ندوة «رابطة برامج الكتابة». وليس من قبيل الصدفة أن عنوان مقالة إبستين يدين بولاء مزدوج لعنوان مقالة ويلسون. أولاً، عن طريق محاكاة النموذج الاستفهامي في العنوان الأصلي، وثانياً، عن طريق توظيف مجاز الموت (عنوان مقالة ويلسون الحرفي: «هل الشعر أسلوب يموت؟» وتصرفنا به ليصبح: «هل الشعر أسلوب ينقرض؟»).

ويمكن اعتبار مقالة إبستين في الأساس تطويراً لحجة ويلسون، ولكن مع اختلافات مهمة؛ ففي حين نظر ويلسون لتراجع موقع الشعر الثقافي بوصفه عملية تدريجية امتدت عبر ثلاثة قرون، فإن إبستين ركز على العقود القليلة الماضية. لقد قارن الإنجازات الرئيسة للحداثيين - جيل إليوت وستيفنس، الذي قاد الشعر من الرومانتيكية المحتضرة إلى القرن العشرين - مع ما كان يشعر بأنها الإنجازات الثانوية للشعراء الحاليين. الحداثيون، يؤكد إبستين، كانوا فنانين يعملون برؤية ثقافية عريضة. الكتاب المعاصرون كانوا «مهنيي شعر» من حيث كونهم يعملون داخل عالم الجامعة المغلق. وضع ويلسون لومه لمحنة الشعر على عوامل تاريخية؛ بينما اتهم إبستين الشعراء أنفسهم والمؤسسات التي خلقوها، وخصوصاُ برامج الكتابة الإبداعية. المجادل العبقري إبستين نوى أن تكون مقالته حارقة، وبالفعل أشعلت بركاناً من النقد. لم يسبق لأي مقالة حديثة عن الشعر الأميركي أن نجحت في توليد العديد من الردود الفورية في المجلات الأدبية. وبالتأكيد لم تنجح أي مقالة نقدية في جلب الكثير من الردود السلبية العنيفة من الشعراء أنفسهم. وقد رد عليه حتى الآن ما لا يقل عن ثلاثين كاتباً في الصحافة الورقية. كما نشر الشاعر هنري تايلور لوحده تفنيدين مطولين.

عندما فقد الشعر ثقته بنفسه كمتحدث باسم الثقافة

الشعراء حساسون لحقيقة «تدهور منزلة الشعر كجنس أدبي» وهم معذرون، وذلك لأن الصحافيين ونقاد الكتب استعملوا مثل هذه الحجج ليعلنوا ببساطة أن جميع الشعر المعاصر أصبح هامشيا وخارج سياق الثقافة. وفي العادة كلما قلت معرفة الناقد بالشعر، زاد احتمال أن يرفضه/ يهمله. ولذلك، ليس من قبيل الصدفة، كما أعتقد، أن أهم مقالتين مقنعتين عن فناء الشعر المفترض، كتبهما ناقدان ممتازان في «النقد الروائي» ولم يسبق لأي منهما أن كتب بإسهاب عن الشعر المعاصر. من السابق لأوانه الحكم على مدى دقة مقالة إبستين، ولكن مؤرخ الأدب سوف يجد مفارقة في توقيت مقالة ويلسون. عندما أنهى ويلسون مقالته الشهيرة «هل الشعر أسلوب ينقرض؟»، كان الشعراء روبرت فروست، والاس ستيفنز، ت. س. إليوت، عزرا باوند، ماريان مور، إي إي كامنغز، روبنسون جيفرز، هيلدا دوليتل، روبرت غريفز، دبليو إتش أودن، أرشيبالد ماكليش، باسل بنتينغ وغيرهم، يكتبون بعض أفضل قصائدهم، والتي - لتناولها التاريخ والسياسة والاقتصاد والدين والفلسفة - تعتبر القصائد الأكثر شمولاً من الناحية الثقافية في تاريخ اللغة. وفي الوقت نفسه، كان الجيل الجديد، الذي سيشمل روبرت لويل، إليزابيث بيشوب، فيليب لاركن، راندال جاريل، ديلان توماس، أي دي هوب وغيرهم، قد بدأوا للتو ينشرون. اعترف ويلسون بنفسه لاحقاً أن بزوغ شاعر متنوع وطموح مثل ويستن هيو أودن، يناقض عدة نقاط في أطروحته. ولكن إذا كانت نبوءات ويلسون في بعض الأحيان غير دقيقة، فإن إدراكه وتفهمه للحالة الشعرية الكاملة كان ذكياً بصورة تسبب الكآبة للشعراء. فحتى لو استمر الشعراء بكتابة شعر عظيم، فإن دور الشعر قد تزحزح عن عرش الأجناس الأدبية. وعلى الرغم من الدعم الذي ما يزال يلقاه الشعر من قبل بقية من المناصرين المخلصين، إلا أن الشعر فقد ثقته بنفسه كمتحدث باسم الثقافة.

داخل ثقافة فرعية

لقد أصبح الشعر ثقافة فرعية، أي «جيب» داخل جسد الثقافة الأكبر، ويمكن أن يرى المرء دليلاً على مكانة الشعر المتضائلة حتى داخل هذه الثقافة الفرعية المزدهرة. الطقوس المتبعة في عالم الشعر - القراءات والمجلات الشعرية الصغيرة (غير الربحية) وورش العمل والمؤتمرات – تكشف عن عدد مذهل من القيود التي فرضه عالم الشعر على نفسه. لماذا، على سبيل المثال، لا يُمزج الشعر إلا نادراً مع الموسيقى والرقص أو المسرح؟ في معظم القراءات يتألف البرنامج من الشعر فقط - وعادة يكون شعراً لضيف تلك الليلة نفسه فقط. قبل أربعين عاماً، عندما كان الشاعر ديلان توماس يقرأ، فإنه كان يمضي نصف البرنامج في قراءة أعمال شعراء آخرين. لقد كان رجلا متواضعاً أمام فنه وبالكاد يعشق الأضواء. أما اليوم فمعظم القراءات هي احتفالات بـ «الأنا» أكثر من الشعر. ولذلك لا عجب أن جمهور مثل هذه الحفلات الشعرية عادة ما يتألف بالكامل من شعراء ومواهب قادمة وأصدقاء الشاعر.

توجد الآن عشرات المجلات التي لا تنشر سوى الشعر فحسب. إنها لا تنشر العروض النقدية، بل صفحة بعد صفحة من القصائد الطازجة. ينقبض القلب عندما يرى العديد من القصائد المرصوصة معاً بإحكام، مثل مهاجرين جدد مكتئبين في ملجأ. ويمكن بسهولة أن تفوت على المرء قصيدة متوهجة وسط تلك الحشود الباهتة. قراءة هذه المجلات الصغيرة بانفتاح واهتمام يتطلب جهداً كبيراً. قلة من الناس تتكبد عناء ذلك، وهم عموماً ليسوا حتى من الكتاب في هذه المجلات. هذه اللامبالاة بالشعر في وسائل الإعلام الشعبية خلقت وحشاً من النوع المعاكس، أي مجلات لا تحب الشعر باتزان ولكن بعشق.

قبل حوالى الـ 30 عاماً، كان معظم الشعر يُنشر في مجلات تخاطب جمهور غير متخصص في مجموعة من الموضوعات الثقافية. وكان الشعر ينافس لجلب اهتمام القارئ جنباً إلى جنب مع السياسة والسخرية والرواية وعروض الكتب؛ وهي منافسة أثبتت أنها صحية ومفيدة لجميع الأنواع الأدبية. والقصيدة التي لا تجذب انتباه القارئ لم تكن تعتبر قصيدة. كان المحررون يختارون الشعر الذي يشعرون أنه يجذب جمهورهم الخاص، وتنوع المجلات يضمن نشر مجموعة متنوعة من الشعر. كانت مجلة «كينيون ريفيو»، تنشر قصائد روبرت لويل إلى جانب عروض أدبية ومقالات نقدية. وكانت مجلة «نيويوركر» القديمة، تنشر قصائد أوغدن ناش بين رسوم الكاريكاتور والقصص القصيرة.

ما خصائص مطبوعات الشعر بصفته «ثقافة فرعية»؟ أولاً، الموضوع الأوحد الذي تتناوله هو الأدب الأميركي الحالي (وربما يستكمل بترجمات قليلة لشعراء من الذين ترجمت أعمالهم على نطاق واسع). ثانياً، إذا نشرت أي شيء آخر غير الشعر، فإنه عادة ما يكون القصة القصيرة. ثالثاً، إذا نشرت مقالات نقدية ذات طبيعة استطرادية (أي طويلة ومتشعبة)، فإن هذه المقالات والعروض النقدية تكون إيجابية للغاية. وإذا نشرت مقابلة، فإن نبرتها سوف تكون تبجيلية تجاه الضيف بصورة ممجوجة. بالنسبة إلى هذه المجلات، النثر النقدي لا يهدف إلى توفير رأي نزيه (محايد) للكتب الجديدة، بل يهدف الدعاية لها فحسب. وفي كثير من الأحيان هناك علاقات شخصية واضحة بين النقاد والمؤلفين الذين يتم نقد كتبهم. وإذا تم أحياناً نشر عرض سلبي، فسيكون جلي التعصب ويرفض أمراً جمالياً سبق أن أدانته المجلة بالفعل. (وهكذا تكون) سياسة التحرير غير المعلنة للمجلة هي: لا تفاجئ أو تزعج القراء مطلقاً، فهم، قبل كل شيء، أصدقاؤنا وزملاؤنا المقربون.

وعبر التخلي عن عملية التقييم الشاقة، تحط ثقافة الشعر الفرعية من قدر فنها. ولأن هناك العديد من المجموعات الشعرية الجديدة التي تظهر كل عام وتحتاج للتقييم الجاد؛ لا بد للقارئ أن يعتمد على صراحة وفطنة نقاد الكتب ليوصي بأفضل الكتب. لكن الصحافة العامة تخلت إلى حد كبير عن هذه المهمة، والصحافة المتخصصة أصبحت متحفظة للغاية من الشعر إلى درجة ترددها في إصدار أحكام قاسية. في كتابه لعام 1991، «الشعر الأميركي: الوحشية والألفة»، وصف الشاعر روبرت بلاي بدقة التأثير الخطير لهذه المناصرة الحرجة: «لدينا وضع غريب: فبالرغم من تزايد نشر الشعر الرديء الآن أكثر من أي وقت مضى في التاريخ الأميركي، إلا أن معظم العروض النقدية عنه إيجابية. يقول ناقد: «لن أهاجم الشعر الرديء مطلقاً، لأنه سوف يفعل ذلك بنفسه». لكن البلد الآن مليئة بالشعراء والقراء الشباب الذين يشعرون بالتشويش عندما يقرأون مديحاً لشعر رديء أو عندما لا تتم مهاجمته مطلقاً، وفي نهاية المطاف يشككون بآرائهم النقدية الخاصة». انتهى كلام روبرت بلاي.

كما إن هناك شعوراً واضحا وثابتا بالشللية يتجسد أيضاً في المختارات (الأنطولوجيات) الشعرية المعاصرة الحديثة؛ فعلى الرغم من أن هذه المختارات تقدم نفسها بوصفها دليلاً موثوقاً به ممثلة لأفضل الشعر الجديد، إلا أنه لا يتم تجميعها للقراء خارج الأكاديمية. وقد اكتشف أكثر من محرر أن أفضل طريقة ليحصل على عرض من ناشر لتجميع وتحرير المختارات، هي أن تشمل عمل شعراء يعملون في تدريس المقررات. وبعد جمعها بروح ان تهازية لطيفة، فإن العديد من هذه المختارات يعطي انطباعاً بأن الجودة الأدبية هي مفهوم لا ينبغي للمحرر ولا القارئ أن يأخذانه على محمل الجد.

أنطولوجيا (مختارات) مورو في عام 1985 للشعراء الأمريكان الشباب، على سبيل المثال، ليست مجموعة أدبية منتقاة بقدر ما كانت دليلاً شاملاً لمعلمي الكتابة الإبداعية (لدرجة أنه يقدم صورة مبتسمة لكل مؤلف!!). هذه الأنطولوجيا التي تتكون من 800 صفحة تقريباً، وتقدم ما لا يقل عن 104 شعراء شباب مهمين، وجميعهم تقريباً يُدَرِّسُونَ الكتابة الإبداعية. مبدأ التحرير الذي يتحكّم في الاختيار يبدو أنه كان الخوف من نسيان بعض الزملاء من ذوي النفوذ. الكتاب يحتوي على قصائد قليلة قوية وأصيلة، ولكنها محاطة بالعديد من الخرابيش التافهة بحيث يتساءل المرء إذا كانت القصائد الجيدة وصلت إلى الكتاب بسبب حسن الاختيار أو - ببساطة - عشوائياً؟ وربما يعتقد المرء أثناء قراءة القصائد المملّة أن الكتاب لم ينشر لكي يقرأ، بل ليفرض كواجب منزلي مرهق لطلاب برامج الكتابة الإبداعية.

نواصل بحول الله الأسبوع القادم

Hamad.aleisa@gmail.com - المغرب

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة