Culture Magazine Thursday  31/05/2012 G Issue 375
فضاءات
الخميس 10 ,رجب 1433   العدد  375
 
رؤية
أيها الآبق متى تعود؟
د. فالح العجمي

 

اعتاد كثير من المجتمعات البشرية على التحسر على الماضي، واستشعار حلاوته بترديد ما يتضمنه من محاسن متعددة؛ خاصة إذا كانت عجلة الحياة سريعة، أو التغيرات الحاصلة في المجتمع كبيرة.

وفي مجتمعنا السعودي يشعر بعض فئاته أن الزمن الجميل كان في فترة مضت، قبل أن تتسارع خطى المدنية، وتقضي على كثير من القيم الحسنة التي كانت تربط الناس في ود ووئام. آنذاك كان الجار يتعهد جيرانه، ويقضي بعض حوائجهم، وينوب عن جاره في التصدي لأي طارئ يحل بأهله عند غيابه، ويتزاور الجيران، ويتبادلون الزاد القليل، ويضحكون ملء أفواههم.

ماذا حل بذلك الزمن؟ هل هو التغير الاجتماعي والاقتصادي والديموجرافي، الذي أسهم في تغيير العلاقات بين الناس؟ أم هو الصراع الطبقي والأيديولوجي، الذي فتّت تماسك الناس وتفاهمهم على حدود متعارف عليها؟

فيما يخص العامل الأول تعرض المجتمع السعودي مع حقبة النفط إلى تغيرات اجتماعية؛ تمثلت في تفكك البنى الاقتصادية التي كانت قائمة على الزراعة المحدودة وبعض المهن البسيطة والتجارة البينية، أو التعامل مع بعض البلدان الإقليمية المجاورة. فقد توفرت وظائف كثيرة في قطاع النفط والأعمال المرتبطة به، كما توفرت موارد لدى الدولة، تمكنت من خلالها من فتح وظائف عامة في القطاعين العسكري والمدني، وهو ما غيّر هيكلية سوق العمل في داخل البلاد، وكذلك نوع التجارة والأعمال الخاصة التي أصبحت سائدة آنذاك. ومع طفرة أسعار النفط بعد حرب 73م، حدثت طفرة مالية في السعودية تغيرت معها الأوضاع المالية للناس، وأسعار العقارات وسوق المقاولات؛ مما استدعى اكتظاظاً سكانياً في المدن، وتغيراً كبيراً في قيم العلاقات بين الناس. حيث استدعت تلك التغيرات سعياً حثيثاً لدى بعض الناس خلف المال، والارتباط بمن يخدمون مصالحه وطموحه في ذلك الاتجاه، دون الاهتمام بما كان سائداً من قبل من تعهد العلاقات الأسرية، وزيارات الأصدقاء، وقضاء الوقت الكافي مع كبار السن... إلخ.

أما العامل الثاني المرتبط بالصراع الطبقي والأيديولوجي، فيعتمد في واقعنا على تطورين رئيسين؛ أحدهما تكدس الأموال في أيدي طبقة ناشئة، استغلت الظروف المذكورة أعلاه في العقارات والمقاولات، فأثرت ثراء فاحشاً، وهي ليست من الطبقات المتميزة في الفترات التي سبقت تلك الطفرة. وهذا الوضع بحد ذاته يعد سبباً رئيساً لخلخلة القيم، التي تعوّد الناس على احترامها، ووضع الأفراد في مواقعهم من خلال تلك المسلمات ذات العهد الطويل.

والتطور الآخر تمثل في تحول أيديولوجي تراكمي، بدأ منذ التسينات، عندما لجأت أعداد كبيرة من الجماعات الإسلامية المؤدلجة إلى السعودية هرباً من بطش بعض الأنظمة العربية. فقد رسخت تلك الجماعات أقدامها في مفاصل الحياة الفكرية للمجتمع السعودي (في التعليم والإعلام والوعظ المباشر في المساجد والمؤسسات العامة)، مما نتج عنه أدلجة المجتمع، وتزايد شكوكه في أغلب مسلماته التي كان يتعايش معها. فأصبحت المرأة «عدواً» للمجتمع، يجب الحذر منه وإحكام الرقابة عليه، والغرب «متآمراً»؛ يجب على المجتمع محاربته ونبذ كل ما يأتي منه من «تغريب» و»غزو ثقافي»، وأغلب وسائل الترفيه «حراماً» أو «لهواً» على أقل تقدير، يجب على الأفراد منابذة من يتعاطى معها، وكراهيته والابتعاد عنه.

وفي ذلك تحضرني عبارة للدكتور إبراهيم التركي في كتابه فواصل في مآزق الثقافة العربية: «... حتى لم نعد نرى حسناً إلا ما قيل لنا: إنه حسن» (ص 85). فهل يوجد أكثر مسخاً للعقل من هذه الحال؟ أما آن لنا أن نتساءل عن ذلك الزمن الجميل، ونكرر دعوته: أيها الآبق متى تعود؟ وهو حتماً لن يعود!

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة