Culture Magazine Thursday  31/05/2012 G Issue 375
فضاءات
الخميس 10 ,رجب 1433   العدد  375
 
البيوت
سقف الأبوية
لمياء السويلم

 

في بيوتنا يستنفد الآباء أعمارهم في سبيل حياة كريمة يعيشها الأبناء، يسعى الأب أن يحفظ أبناءه في البيت ليحميهم من الشارع وعبث الحياة وأبواب الشيطان، يتضاعف حرصه على بناته، سيشتد ويقسو في صرامته ليبقي سلطته عليهم، مؤمناً دون أن يشك لحظة من عمره أن هذه السلطة ستحسن تربيتهم على الشكل الذي يريده.

ثمة آباء لنا لا تفارقهم الابتسامة وآخرون لا يعرفونها، هنا آباء لا يكفون عن الكلام وآخرون يشحون حتى بالسلام، آباؤنا يختلفون في شخصياتهم ويتفاوتون في قوتهم وضعفهم، بعضهم يسعى جاهداً لتأمين ثروة مالية لا تنفد عن أبنائه وأحفاده وبعضهم يعتقد أن ساعة غياب عن البيت تعني خسارة العائلة. الآباء يختلفون في كل كل شيء لكنهم يتفقون على السقف الواحد للحياة.

آباؤنا يتفقون على أن البيت هو المصير لا المأوى، وأن العائلة هي القانون لا فقط المحضن، يعتقد آباؤنا بأن مسؤوليتهم عن صغارهم تكبر كلما كبر الأبناء، وأن سبل الحياة التي اتخذوها لهم صغاراً يجب أن تستمر معهم كباراً، آباؤنا لا ينتظرون أن يبلغ الأبناء عمراً للاستقلال ينضجون فيه ويبدؤون رحلة حياتهم الخاصة، بل ينتظرون أن يكبر الأبناء ليستمروا على سبيلهم الأول، ليكونوا نسخاً متطابقة للآباء، نسخاً مشوهة عن أنفسهم.

الفردانية والاستقلال الشخصي وواجب العمل وتأمين الدخل المادي وحق اتخاذ القرار. هذه المجموعة من الصفات التي يعيشها الإنسان في العالم، لا يعيشها الإنسان في بيوتنا، لا آباؤنا يؤمنون فيها، ولا الأبناء يسعون إلى تحقيقها. المشكلة التي تتجذر في بيوتنا ليست الأب كفرد بل الأبوية كنظام، الأبوية التي في جوهرها تقوم على عدم الاعتراف بالاستقلال والحرية الشخصية.

بيوتنا لا تشكل أبواباً على العالم، بل تشكل مصيراً خارجاً عنه، الأبناء لا ينتظرون عمر الاستقلال الشخصي ليملكوا حق بداية حياتهم، لأنهم يعرفون أن ليس ثمة أبواب في بيوتنا ستفتح لهم، هنالك أبوية قتلت فكرة الأنا الحرة داخلهم، أبوية تحاصرهم اجتماعياً بأن هذه البيوت المغلقة هي الطبيعة الإنسانية، أبوية ترهب فيهم الحلم الشخصي، ترهب فيهم الاختلاف حتى بالرأي، أبوية تحيلهم لنسخ مكررة عن آبائهم، أبوية تعيد تدجين الأجيال على نفس الصورة العاجزة والمعطلة عن الحياة.

في العالم الذي يعترف بالاستقلال الشخصي وفردانية الإنسان، قد يعيش طفل في ظل والد مدمن، لكن الطفل لا يترك في ظله، بل ينتزع باسم حق الطفولة ببيوت آمنة، وإذا ما عاش في ظله سيكبر يوماً ويخرج من البيت ويصل إلى حياة أخرى ويحقق أحلامه ويعيد ترتيب الأيام، فلا يكون الأب المدمن سجناً أبدياً لطفله، ولا يكون قادراً على حرمانه من الخروج للحياة وبداية عمر جديد.

لكن آبناءنا الذين يعيشون في بيوت آمنة، وفي ظل آباء مخلصين، يكبرون في سجونهم، يكبرون على الحرمان من الحياة، على الحرمان من الاختيار، يكبرون معطلين عن التفكير والتعبير وعن الحب وعن الحلم وعن والطموح والرغبات الصغيرة والكبيرة، لماذا في بيوتنا يشكل آباؤنا المخلصون حصناً ضد الحياة، ولا يشكل آباء العالم السيئين إلا حجرة صغيرة في حياة الأبناء يرفعونها عن طريقهم لحظة نضجهم.

آباؤنا المخلصون والمحبون والمتفانون في عطائهم، ليسوا الطريق إلى الحياة الحقيقية، لأن حكمهم الأبوي قيد قاسٍ يتغلغل في حياة الأبناء، العاطفة والعطاء الأبوي لا ينبت في أرضه إنساناً حراً، بل تتكلس في الإنسان عبودية لا زلنا نقدسها باسم البيوت.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة