الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 20th December,2004 العدد : 88

الأثنين 8 ,ذو القعدة 1425

قصة قصيرة
عالم ما تحت الأرض
هديل ناصر العبدان
في تلك الردهة السوداء.. كانت هناك.. لفت قدميها وضمتها إلى صدرها محاولة تهدئة نبضات قلبها التي بدأت تتسارع.. عيناها جاحظتان.. ويداها ترتجفان. وبدنها بدأ بالتحول شيئاً فشيئاً إلى الهزال من شدة الخوف الذي سكنها واستحوذ قلبها المسكين.. تسمع قرع أقدامهم.. لكن الخفافيش كانت أسرع منهم.. تخطت أقدامهم لتصل إليها بأسنان بشعة وتحاول الهجوم.. فأبت أن تكون نهاية حياتها على يد طيور رهيبة بشعة المنظر والرائحة.. فركضت محاولة الابتعاد عن أنظارهم السوداء المحاطة بالحمرة.. ركضت وهي تجر أذيال الرعب الثقيلة من خلفها.. وعيناها ترسلان شرارة معلنة الانتهاء عند هذا الحد والاكتفاء بما مضى.. ولكنها ظلت تهرب لتتذكر ولو شيئاً من ماضيها.. ولكن حاضرها أبى أن يزيد إليها شيئاً من الثواني العذبة.. ودمج جزيئات الزمان ببعضها.. وقفوا بوجهها.. تلقفها شراهة بالبشاعة مصاصو الدماء.. كأنهم لم يملؤوا معدتهم الشاسعة منذ سنين.. لقد استلذوا دماء براءتها المالحة.. وأرادوا إراقة جسدها الخاوي إلا من النعومة.. أبوا أن يجعلوها تضيف شيئاً ولو صغيراً من سحر وبراقة قلبها المأسور في هذا العالم الكئيب.. تلقفوها بهمجية مبالغة.. ليغرزوا أسنانهم البشعة القاسية المتحجرة ويمتصوا الرحيق الصافي من شرايينها الذي لم يزل في ريعان طراوته ولم يصل لقلبها بعد.. بل كان في الطريق.. استمر بالسحب حتى تأكد أن تلك الرائحة باتت في جوفه الآن حتى جعل جسدها رفاة ممدداً بين يديه الشزرتين.. أسقطها على الأرض.. وأدار ظهره ولكنه ظل واقفاً مترصداً شيئاً ما.. ثم استفاقت.. ونظرت اليه.. وزأرت.. ثم قال لها وكأنه كان متحضراً لإفاقتها.. مرحباً بك في عالم ما تحت الأرض.. ابتسمت وتنحت.. ثم سلَّمت مهجتها ليديه فصرخ بأعلى صوته.. هلموا لقد حصلنا على مراهقة.. لم تتعد الثواني حتى اجتمع كل من في الأرض من بشعين أمثالهم.. وأمسك بيدها التي لم تعد ملك حياتها في وهلة.. وضرب الأرض فانشقت طريقاً له.. ثم نزل وسحبها من ورائه.. لم يكن مرسوماً على وجهها الذي لم يعد يكن شيئاً من الطهارة اي علامة استنكار للمكان.. فكأنها قد زارته من قبل.. بل وكأنه كان من روتينها المعتاد.. وأيضاً كانت أكثر القسمات التي كانت ظاهرة على وجنتيها هي التخدر والاستلذاذ بالرائحة العبقة.. رائحة الدم المقيتة.. رائحة الدم التالف المتحجر.. المملوء بالاسوداد.. عندما وصلوا نهاية الممر وجدت ذلك الأرنب الأبيض الصغير مطروحاً أمام عرش كبير.. كان عرش سيدهم.. قال بكل جفاء كان يتملكه: لن أرحب بك ما لم يسر دم في جسدك.. ولكرمه الساخر.. مد اليها ذلك الأرنب البريء.. كوجبة خفيفة ما قبل العشاء الفاخر.. ذلك الأرنب لطالما كانت تتمنى الحصول على واحد منه.. لتتحسس فروه الناعم الخجول.. وفي لحظة.. تحوَّل إلى وجبة سريعة طازجة لإشباع نفسها التي ودعت مراهقتها المكبوتة.. أمسكت به بكل ما تحمله من قسوة وغرزت أسنانها بذات القوة التي غرزت بها من قبل.. ثم امتصت دمه بكل شراهة وكأنه حلوى لذيذة.. ثم رمت به.. خالياً من الروح والحياة.. فضحك بصوت يهز الجدران ثم
قال: الآن أصبحت لنا.. لقد كانت هذه أول محاولة لدمج فانيه إلى عالمهم المليء بالدأب.. وهناك وفوق الأرض.. كان يبحث عنها افتقدها بعدما وعدته بالحضور في الموعد وعدم التأخر.. لقد طلب منها ارتداء ذلك الفستان الأحمر لقد كان ينتظرها على تلك الطاولة.. وباقة الورود إلى جانبه.. وعلبة صغيرة سوداء بداخلها خاتم صغير.. لقد كان يخطط لطلب يدها.. ولكن الاتنتظار قد طال.. فخرج كالمجنون.. لا يعلم هل يخاف عليها أن يكون قد حصل لها مكروه أثناء قدومها؟؟! أم يغضب لانها قد تكون استهانت بالموعد؟؟!! كل تلك التصورات قد بدأت تداعب فكره بسذاجة وثوانٍ.. ثوانٍ تائهة.. ظل يبحث عنها في كل كان.. عاد إلى شقتها.. ضرب الباب بقوة.. ولكن لا مجيب.. لا يوجد سوى صوت ذرات الهواء تتلاعب في فضاء الغرفة الفارغة.. سأل الاستقبال عنها.. فأكدوا له أنها خرجت منذ ساعتين.. مرتدية فستاناً أحمر ووضعت المفاتيح في حقيبتها التي كانت تحملها في يديها العاريتين.. لم يعد يملك عقله بعدما سمع.. ذهب إلى كل مكان قد يخطر ببالها أن تمره.. إلا المقبرة.. لم يكن قد خطر بباله المرتبك أن تكون هناك.. إلا بعدما رأى حقيبتها الصغيرة عند البوابة.. دخل بكل جرأة.. هو نفسه لم يصدق انه دخل في اليوم التالي.. بحث عنها.. حرث الأتربة.. لم يجدها.. فقط وجد فستانها ممدوداً على الأرض.. أخذه ثم تحسسه.. بات يشم رائحتها العطرة.. ولكن تلك الرائحة لم تكن مألوفة لديه.. لم يعتد على شمها.. لقد كانت تلك الرائحة نتنة كريهة.. كرائحة
الدماء.. ولكن لم يستطع تحديد ماهيتها.. بسبب اختلاطها مع العطر الأخاذ الذي كان قد ارتشف جلدها منه.. أخذ الفستان وأدبر إلى شقته ثم لفه بقطعة قماش عطرة واحتفظ به حتى يجدها.. مرت شهور وسنون وهو على حاله.. كل يوم يمر على تلك المقبرة لعل وعسى أن تكون عادت للبحث عن فستانها المفقود.. ومع ذلك كان يحاول بقدر استطاعته استيعاب ما جرى في تلك الليلة البليدة الشنيعة.. لكنه لم يفقد الأمل بالعثور عليها مع كل تلك السنين.. وفي تلك الليلة المشؤومة.. ذهب كعادته إلى ذات.. المقبرة.. ويالحظه العثر.. لقد كانت تلك الليلة ليلة ظهور.. (المكرّس).. التي يخرج فيها مصاص دماء ويحاول العثور على أربع أنفس بريئة ضحية ترقيته لتزداد قواه ويحصل على السيف وإن لم يجن تلك الضحايا حتى بزوغ الفجر فإنه سيقتل بالسيف ذاته.. وتلك الليلة كانت هي (المكرّس).. خرجت من المقبرة التي دخلت.. عبرها.. بدأت تجوب الزوايا والمكان محاولة العثور على جسد يحمل دماً لتنسجه في خلاياها.. ولكنه وللأسف.. كان أول من وقعت عيناها عليه.. لم تعرفه.. لأنها لم تعد فانيه.. ولكنه عرفها من نبضات قلبها.. لقد حفظ تلك الترنيمة المتراقصة.. لا يزال يذكر ذلك البريق في عينيها الذي احتله الغبار ولكنه لم يعلم أنه ضحيتها لليلة.. نادى باسمها ولكنها تجاهلته.. وكانت تحاول البحث عن أكثر منطقة يفور فيها الدم بغزارة.. وكانت تستلذ كثيرا دماء الوتين.. تحاول الإمساك به.. كان يستطيع الفرار.. ولكنه كان يأمل أن تنتهي هذه المسرحية التي تتراقص امامه كالمسوس.. ينظر الى بشاعة وجهها.. يسألها عن السبب.. لم ترد عليه.. تعب من الأسئلة.. وترك الجواب لنفسه لربما يستطيع أن يجده بفكره الحائر.. جسدها.. وجهها.. شعرها.. يديها.. كل شيء كانت تملكه قد تغيَّر.. حاول استيعاب كل ما يجري.. ولكن محاولته باءت بالفشل الذريع.. الشر كان يستحوذها.. دمه كان يروقها.. كان يحاول تذكيرها بالماضي العثر.. باللحظات البريئة.. الكلمات الحنونة.. وحتى المساء الجميل.. الرماد البارد الذي لم تلمسه خيوط الشمس بعد.. والبزوغ السامي.. ولكن أيمن تلك اللحظات لم تشد بفكرها إلى الوراء.. انها الآن لا تعرف سوى حاضر ومستقبل.. اما قاموس الماضي.. محته.. محت كل ما كان له صلة بالماضي.. كل لحظة أنس عاشتها.. كل ليلة مرح أحيتها.. كل نظرة خجولة اطلقتها.. كل زهرة بحنانها قطفتها.. لا تعرف الآن سوى لغة الانتقام.. واشباع النفس مهما كانت النتيجة.. لقد رمت بماضيها عند بوابة النسيان.. في صندوق خاوٍ.. وبعض الغبار فوقه.. غبار السنين.. البالية.. امسكت به بكل يديها.. ضمته الى صدرها.. ظن انها قد حنت عليه.. ولكنها سرعان ما لفت رأسه لتصل إلى عروقه البليدة.. وهو لم ينبس ببنت شفة.. كان على يقين من صحوتها في اي لحظة حين ترتشف اول قطرة من حبر دمه.. غرزت أسنانها بكل وحشية.. امتصت رحيقه العذب.. يحاول إبعادها. ويحاول.. ثم يعاود المحاولة أقوى.. ثم أقوى. ثم.. سقط.. قهقهة تحت وطأة الظلام الدامس.. أطرقت رأسها نحو الرفاة.. وقالت: مهما كنت سأظل أحبك.. للأبد.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
مكاشفة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved