Culture Magazine Thursday  04/04/2013 G Issue 401
مراجعات
الخميس 23 ,جمادى الاولى 1434   العدد  401
 
استراحة داخل صومعة الفكر
رحلة البدءِ والمنتهى (4)
سعد البواردي

 

د/ عبدالعزيز محيي الدين خوجة

621 صفحة من القطع المتوسط

الزورق المسحور يتحول بدفع مجاديفه عبر أمواج القلب المتلاطمة تأخذه تارة نحو اليمين وأخرى نحو اليسار.. في كل اتجاه له صوته.

ومع كل حركة له بوح.. ها هو هذه المرة يهمس في دواخله:

أحقاً سيبقى الريح وتمضي

حياة الزهور بغير جناح؟

أنبقى حبيبين نغني صفاءً

ونشدو هوانا بغير نواح؟

أحقاً ستبقى وتبقى بجنبي

أطالع فيك ضياء الصباح

حبيبي حنانيك إني أخاف

وأخشى على الحب غدر الرياح

خشية مشروعة وهو يتطلع إلى الأمواج الوجدانية متلاطمة من حوله.. والأنكى من الخشية أن يمتلكه نذير الحس بصفارة إنذاره وهو قاب قوسين أو أدنى من الفراق:

حبيبي حنانيك إني أحس

نذير الفراق يهدد أمني

وأشعر أن دبيب الغناء

يحاول قتلي ببعدك عني

فأصرخ في الليل كالمستجير

وآتي إليك لتقتل ظني

قاتل الله الظنون ما دخلت شيئاً إلا وأفسدته.. كالسياسة سواء بسواء.

يبدو أن الخشية أتت في مكانها فقد ودّع غرامه بعد حركة مثقلة:

بدد لي الليل لا دمعا ولا ندما

يا ساحر اللحظ قد أمسى الهوى حُلما

أغدو ويغدو معي عمري يسابقني

صار التمني لنا في شأننا ألما

إني ظلمت صباحاً حين وسّدها

قلبي بوهم المنى هلا رعى الذمما!

ماذا أقول لعهد كان يربطنا؟

فرقته مزقنه إربا واريته العدما؟

قل له: على نفسها جنت براقش. من زرع حصد.. وحصاد الوهم الهم والندم.

يتحرك القارئ المسحور تاركاً خلفه بعض العناوين بحثاً عن نقطة لا يعصف بها التيار إن أمكن.. وأخاله غير ممكن فمساحة الموج باتساع البحر.. وعلى مقربة دوت صفارة الإنذار:

بيني وبينك هذا المدى

وهذا الصقيع الرجيم السحيق

كأني أناديك عبر الردى

غريق يروم انتباه غريق

فلا رجع للصوت أو للصدى

كلانا تنكب همّ الطريق

كلانا ينادي يمدّ اليدا

لقبضة ريح ذوت في شهيق

وتمد المأساة خيوطها أكثر وأكثر لحظة الرحيل:

وتحترق الأصابع من يدينا عند مفترق الوداع

وفي العينين أصوات استغاثات المنى نهب ارتياع

أقلّب خافقي خلف المدى حيران في كف الضياع

كأن القلب رفّ الجفن خفقا في مدارات الشراع

وكأن الموج أبحره دمي. يرغي بعاصفة التياع

مشهد دراماتيكي يعرض فصوله الأخيرة ما قبل النزع وصمت القلب على وقع الصدمات الأقوى من إرادة التحمل..

يتذكر شاعرنا الوجداني مرفأه الذي افتقده بعد أن عادت إليه روح المغامرة من جديد.. ذلك أن موتى الحب يعودون من جديد في حركة استنساخ وهمية لا وجود لها إلا في قواميس الشعراء.

لهب في كبدي موقده

أمل بالوصل يبرده

وغرامي كأس أنزعها

بالصاب وليل أسهده

قد ضيع حلماً زورقه

بحثاً عن شعر يرفده

والسؤال: هل عانق زورقه مرساه سالماً..؟ لا أظن.. وبعض الظن إثم.!

لكل هذه المحطات العاصفة أجهشت نفسه بالعويل:

بكت نفسي ولا أدري

لِمَ الأحزان تستكفي بها نفسي؟!

حنين ساكن فيها يغذيها

وأشواق إلى المجهول في حسي

بكت نفسي ولما هزني وجدي

بكى قلبي على طيف من الأمس

بكاء إثر بكاء.. يغسل الدموع من أوضارها.. يتنفس بها عن أوجاعه المتلاحقة التي لا مفر ولا منجاة منها:

فهذا الحزن من قدري ولا منجى

وهذا الحزن في روحي وفي نفسي

رفقاً يا أوراق التوت.. عنوان لافت للنظر:

رفقاً يا أوراق التوت لم يبق رداء يستر عوراتي

سقطت هامات الجبروت دحرجها العار على الطرقات

وانقشع العار على الطرقات

وانقشع النور الزائف عن كلماتي

شاعرنا ضاق بالزيف.. والخداع.. والمظهر الكاذب.. همه إيقاع ولو شمعة في النفق المظلم تعرّي الأشياء المستترة وتكشفها.. الوضوح هو ما يبحث عنه.

بعد دموع. وتيه. وغرق عادت الروح إلى شاعر الوجدان الدكتور عبدالعزيز خوجة.. حلّق برأسه.. أبصرهما نجمتين تبرقان في كبر السماء.. تذكر بهما نجمته المشعة على الأرض.

عيناك نجمتان تومضان تلمعان

توقدان ظلمة المساء

عيناك تسكبان للهوى قوته

وسحره فيمثل اللقاء

عيناك يا حبيبتي تعلمان

كيف أننا نطير للسماء

أتعرفين كم هو الغرام رائع

فلا حياء في الغرام أو رياء

أبيات أربعة مجتزأة من قصيدة عاطفية رومانسية تغرد للجمال.. وتغني للعبرة.. وتهتف للمنى.. رغم غيابها غني لها.. تغني بطيفها الجميل كم لو أنه لم ير غيرها: ولم يحب سواها:

أواه يا حبيبتي. يا ذلك القدر الجميل

جودي كما شاء الهوى. صدي إذا شاء الهوى

إني رضيت بأن أكون متيماً

ما دام في العمر القليل

الأشياء كلها سواء في نظر شاعرنا وفي تقديره هذا ما عبر عنه تحت خانة هذا العنوان:

عند الفراق تموت عندنا المعاني

وتصبح الأشياء كلها سواء

حتى الأغاني. حتى الرفاق. والشعر لا معنى له

ركام من الأشياء فقد ظله. وربما أيضاً أصله. الليل. وذوبان ذبالة الحنين.. وهروب الغروب.. ورحل النجوم.

أشياء كلها سواد لا أحد يقدر على فرزها وتمييزها.. لعله عمى ألوان الوجدان حين يبحث عن شيء لا وجود له على خريطة القلب.. لهذا الياس كله أكتفي بالبؤس بالارتحال:

أظن يا حبيبتي سأرتحل

إذا ارتحلت فانشقي العبير حيث فيه لوعتي

وعانقي النسيم في الصباح جئت فيه زائراً

أقبّل الخدين في شقاوة وتضحكين من براءة..

قصة تصلح أن تسمى رحيل قبلة واحدة لا تتكرر..

أخذنا شاعرنا إلى تسبيحته:

لو كان البحر مدادي يا قلمي

نفد البحر ولم أكمل..!

تسبيحة شوق من أورادي

لم أكتب معنى الآهة.. أحرقها. وتحرقني

أرسلها لحنا في تسهادي يا من يملك سر الخفقات

يا لوعة الحب يسكن نبضاتي. يا كلي

أين لنا عزيزي أن نفترق.. بدوري أعترف أن دواراً في رأسي وهو يلاحق مائتين وستين عنوان قصيدة لديوان واحد سهل البداية مجهد النهاية.. يكفي في خطاب الغرام تغريدة واحدة وقد قدمتها لأكثر من حوار جاءت نهايتها مرة المذاق. ومع هذا أشعر بمذاق حلاوة شعرك وأنت تقول:

يا شعري. يا أحلى الأبيات

هل كانت لي من غيرك دنيا. أو معنى لحياة؟

الوداع الحزين مر.. وأكثر مني مرارة بعد الوداع لحين تتفرد بالواحد وحشة المكان.. ووحدة الإنسان:

بعد الوداع.. وبعد أن تجف دمعتي

أعود للطريق ضائع الخطى

تقول لي في الصدر خفقتي:

لقد شربت من سرابها كطائر القطا وعدت فاقد الجناح

أقول: كيف أن أضمد الجراح؟

وتنكأ الجراح بعضها الجراح؟

أقول لك: الصبر المر إن حصلت له على أثر.. الفنانة نازك ما برحت تبحث عنه وهي ترجع أغنيتها الحزينة:

يا عطارين دلوني

الصبر فين أراضيه

ولو طلبتوا عيوني

خذوها بس ألاقيه

الاغتراب ضياع لحنه حنين وأنين لا ينتهي إلا بالعودة حيث يجد الإنسان نفسه.. الاقتراب أيضاً ضياع حين يفتقد الإنسان نفسه.. الإنسان قبل المكان.. وقبل الزمان.. ماذا قال شاعر الوجدان عن غربته؟!

آهة الليل في ضلوعي نار

وأنين الجوى صدى الأوتار

أنا والجرح في الليالي وحيد

ونزيف الظنون في أفكاري

إلى أن يقول:

قد ذرعت الزمان شرقاً وغرباً

سندباد قد ضاق بالأسفار

غربتي طالت والأماني صداها

وبباب الجنون صوت سعاري

أين أين المصير والعمر يذوي

وحنيني الوحيد نحو دياري

انطوت غربتك محتضنا وطنك بالأعماق.. ها هي القداسات من حولك ترد لك الجميل وترد لها أنت الجميل مشاعراً وشعراً:

فترة نقاهة واستراحة وهبنا إياها شاعرنا من صخبه الحب إلى روحانية الرب جل شأنه.

أتيتك يا رب عطشان حباً

تشفي غليلي وتطفي حريقي

ومن لي سواك يدل فؤادي

ويهدي الشريد لنور الطريق

كسر شاعرنا مجاديف غربته بعد أن أتخمنا صباً. وندباً. وعشقاً إلى درجة الفراق الذي لا يكتم الأنفاس.. عاد إلينا وبنا من جديد إلى أرض الوطن.. إلى الأهل. إلى السهل والجبل. إلى التاريخ. والتراث. والمقدسات. طوّف بنا عبر قابلته يذرعنا شبراً شبراً.. ويزرعها ولاء وانتماء.. ووفاء وبرا.. ها هو يعود بشعره إلى أحضان أمه الحنون:

أمّاه إني قد أتيت. وفي يدي طفولتي

وتركت خلفي كل أحلام الشباب

وبحثت عن يدك النحيلة كي تعانق أوبتي

ورأيتها ممدودة عبر السحاب

وكأنها طوق النجاة لحيرتي

وقفزت ألثمها أعانقها فعانقني الثواب.

ليتك أبدلت السراب بالسحاب علامة البر والأجر.. السراب له معنى مجازي هو فل المحاولة وأنت لم تفشل!

ومن والدته إلى ابنته وفلذة كبده يخاطبها عن بعد:

أبنيتي. واشتقت في وله إلى «بابا» تناديني

في غربة الأيام والأحلام. تأخذني وتغويني

نادي على «بابا» لعل اللحن يسعفه

نادي لعل القلب يطربه الصدى

والصوت يطرقه ويحييني

ويختتمها بهذا البيت المليء بالافتتان في حبها.. ومن فينا لا يحب أغلى الناس لديه:

إن المنايا. طفلتي يوماً إذا حانت ستأتيني

المنايا يا عزيزي لا وجود في قاموسها لمفردات الاستثناء.. كلنا لها..

ومن ابنته إلى ابنه محمد هذه الأبيات:

أذهبت لي كمدي

يا فلذة الكبد

لما أتيت لنا

باليمن يا ولدي

يا طيب خاطرة

مرت على خلدي

يحيا لها خافقي

في حاضري وغدي

نفس المناجاة والمناداة.. أليس هما الحياة في عمره وبعد عمره.. والثروة التي لا تقدر بمال.. كسائر أطفالنا إذا ما استثمروا جيداً في بورصة الحياة ديناً ودنيا إضافة إلى أنهم زينة الحياة الدنيا قبل المال وبعده.

*****

تنويه

تعتذر الثقافية عن ورود عدد من الأخطاء التصحيفية في أبيات الديوان الذي يدرسه الأستاذ البواردي فله وللدكتور الشاعر عبدالعزيز خوجة العتبى.

الرياض ص. ب 231185 الرمز 11321 ـ فاكس 2053338
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5621 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة