Culture Magazine Thursday  06/06/2013 G Issue 409
فضاءات
الخميس 27 ,رجب 1434   العدد  409
 
شعريّة القصة القصيرة
علي الدميني
-

 

شعرية القصة أحد المنظورات الأساسية التي تشكّل كلية مفهوم جماليات السرد و حداثته، حيث تغدو الرؤية وتجلياتها الأسلوبية، في البنية، والبناء، والتسريد، تملّكاً خاصاً للغة جديدة، يفتح فيها النص أبواب حداثته على متكآت التمايز والاختلاف عن سياقاته التاريخية المؤسسة لأنموذجه الفني، وسلالاته التجديدية المتواترة.

و كما نعلم أن جماليات النص السردي، تأتي من عدد لانهائي من الممكنات، و منها شعرية النص، غير أنها تنتمي في نهاية التحليل إلى أدوات وظيفية رئيسية، تقع بين جدلية هذه المكونات:

الرؤية ويقابلها انفتاح مناطق التأمل والتأويل،

والتعبير اللغوي ويقابله ممكنات البناء والتشكيل.

وشعرية القصة هنا لا تأتي مرادفاً لمعنى الجمالية، وإنما من اتكائها على خصائص بنائية يتميز بها الشعر، فتذهب إلى أقصى مراتب الحساسيات الفنية التي يتجلى فيها الحوار الخلاق بين التعبير اللغوي والتشكيل لرؤية إيحائية مفتوحة على التأويل، دون أن تفقد ما يربطها برهافة السرد، وإلا انتقلت من فضائها ذلك إلى فضاء قصيدة النثر.

وبرغم المآخذ على كتاب شعرية القصة من أن اهتمامهم بالبعد اللغوي جاء تعبيراً مضمراُ عن هروبهم من الوفاء بمتطلبات النموذج القصصي المثالي، أو تهرباً من الإفصاح عن رسالة الخطاب القصصي، إلا أن جبير المليحان قد استطاع، خلال تجربته الطويلة ، وعبر تقاطعاته مع تجليات النموذج، وفي تمايزه عنه أيضاً، امتلاك تلك الأدوات وتوظيفها بحرفية عالية ، لإنتاج نص قصصي حداثي، وعبر مراحله الثلاث التي اشتملت على كتابة (القصة - القصيدة)، والقصة الواقعية النقدية القصيرة، وفي تجربة مرحلته الثالثة في كتابة «القصة الصغيرة».

ويمكننا أن نرى في اشتغالات جبير المليحان أنموذجاً لأحد أبرز كتابنا في المملكة، الذين يختبرون مهاراتهم الإبداعية والثقافية تحت ظلال خيمة «شعرية القصة»، حيث يأتي إلى كتابة النص كحاجة للتعبير عن حالة/ عن رغبة في التشكيل، وليس عن فكرة جاهزة مسبقة، ولهذا نرى أن نصه يتخلّق أثناء عملية الكتابة، وليس قبلها.

المعرفة الحاذقة بالنموذح الفني تعين القاص على الانطلاق في تجربته وتجريبه، ليمضي بعد ذلك في بحثه عن «لغة جديدة»، وعن كتابة طازجة ومختلفة، تعينه باستمرار على تجاوز نمطية النموذج السائد، وعلى تجاوز نمطه الشخصي، والافتراق عنهما أيضاً، سواءً في البعد الدلالي أو التعبيري.

وفي هذا السياق يمكننا أن نشير إلى أهم السمات الجمالية العامة لشعرية القصة:

خصائص نوعية عامة:

- الحساسية العالية للغة، والتمكن من أدواتها البلاغية.

سلاسة كتابة الجملة، و موسيقية السرد.

- المقدرة الفنية على تشكيل حالات التكثيف و الإيجاز، والإحالة على ما يقع، في مستوى الرمز، خارج النص.

- استثمار مكونات المقابلة والمفارقة، لتعميق مفاعيل «دراما» السخرية والشعرية في بنية النص.

وتتجلى هذه الخصائص كأحد أبعاد جمالية النص، في المرحلة الثانية من تجربة جبير، التي انبنت على توظيفه «لليومي ومكونات الذاكرة»، وفي قصصه المكتوبة للأطفال، فنراه يستعين بهذه الخصائص الشعرية، التي أتقن استخدامها من قبل، من أجل التعاطي برهافة لغوية عالية مع شعريات البعد الحكائي في الحكاية الشعبية والأسطورية، ومن أجل تخفيف ثقل حكائية البعد اليومي، وتخصيبها ببعد شعري يسهم في تعميق مفاعيل سرديتها واستراتيجيات خطابها، وآليات استقبالها.

«القصة - القصيدة»

تفيد (القصة - القصيدة) من هذه الخصائص العامة لشعرية القصة، وتضيف إليها خصائص نوعية أخرى أكثر التصاقاً بالبنية الشعرية للقصيدة، و ذلك بتركيزها على:

- البعد الإيحائي في اللغة أكثر من الجانب التواصلي، وذلك بتغليب أبعادها الاستعارية على الكنائية.

- ممكنات الحذف والإضمار، وتوظيف تكرار مطالع بعض الجمل، لتأكيد الدلالة، والعمل على توظيفها كبعد تأويلي يشكّل طبقة أخرى لمعنى المعنى المسرود في عبارات النص.

- البعد الغنائي والانفعالي الداخلي، كآلية مهيمنة لتشكيل حكائية النص، عوضاً عن العالم الخارجي.

- الإفادة من لعبة الفصل والوصل، والانتقال الإيحائي من جملة إلى أخرى، ومن فنية البعد التجاوري بين مكونات النص - التي يتميز بها الشعر- لتشييد معمار فني ينهض على تعدد زوايا التقاط الصورة (كعين تبصر كل الجهات)، وعلى القدرة على إدماج مكوناتها المتجاورة، في شكل هارموني منسجم، يرسم الدلالة الكلية للقصة، رؤية وتعبيراً.

- إيقاعية التشكيل وموسيقية الجملة والتركيب على السواء، مع بقاء عنصر السردية ناظما للنص، بحيث لا تجرفه الشعرية على أن يكون قصيدة (إدوارد الخراط- الكتابة عبر النوعية).

وجبير الملحيان، الذي يمتلك رؤية واضحة وبعد تأملي وثقافي واضح المعالم، يبدع نموذج (القصة- القصيدة)، كمثل شاعر متوهج بقصيدته، يعمد لاستخدام هذا الأسلوب، لمعرفته وخبرته – من الناحية الجمالية - بأن الشعر يتوفر على أرقى أشكال صياغة «فنية الكتابة»، في تكثيفها واقتصادها وفي أبعادها الإيحائية، وفي دلالاتها المفتوحة، كما يجد في غنائيتها ما يعينه على كتابة أشد حالات الانفعال توترا، دون قيد يمليه عليه استيحاء الواقع، أو إعادة تخليقه في النص الموازي. وهنا يستبدل عناصر بناء النص القصصي النموذجي، بعناصر أخرى، تنتسب إلى مكونات شعرية القصيدة، فيتم تعويم الرسالة المباشرة للخطاب، لتغدو دلالات منفتحة على التأويل، ويأخذ القارئ دوره في التفاعل معها والمشاركة في تشييد موقع دلالاتها وإحالاتها، كشريك في إنتاج فاعلية النص، وحياته.

وإذ تتبدّى في مجموعاته الثلاث - تحت خيمة شعرية القصة - تمظهرات التلازم الجدلي بين رؤية النص وأدوات تشكيله، فإن مرحلته الأولى في عقد سبعينيات القرن المنصرم، التي كتب خلالها «القصة – القصيدة»، كانت تعبيراً جمالياً و دلالياً عن قطيعته مع شكل القصة التقليدية، أولاً، وعن مقدرته على تجاوز النموذج، ثانياً، وعن إعلانه عن حالة الرفض للسائد، ثالثاً.

وقد تولّدت هذه الرؤية الثقافية والفكرية وتجلياتها الجمالية، في خضم حالة التأثر بمناخ الانهزام العربي، و اغتراب الإنسان عن أحلامه، وانسحاقه تحت وطأة التخلف و القمع والاستبداد، ليكون هذا النتاج تعبيراً عن حالة الرفض لهذا الواقع بكل مكوناته، وبحثاً عن الكينونة الذاتية وتحريراً لها ولإبداعها من أسر النموذج الفني التقليدي، ومن قيوده الاجتماعية و الثقافية والسياسية، متصادياً في ذلك أو متقاطعاً، مع تيارات ثقافية وأدبية عالمية، ومع تأثيراتها في الساحة الأدبية العربية، مثل الوجودية، والاغتراب، وتيار الرفض والعبث، وسواها، في تلك المرحلة.

وحيث قد توقفنا في محور (الأطفال والماء) على كثير من تجليات هذا النموذج الفني عند جبير، فإننا هنا سنكتفي بالوقوف على نصين آخرين يعبران بطريقتين مختلفتين عن هذه التجربة، حيث كتبهما في مرحلتين متباعدتين، زمنياً.

أ- النخيل التي ليست في الحدائق ( قصر العشراوات – 1979م).

تشكّل النخلة في قصصه، الضلع الثالث من مثلث العلامات اللغوية المهيمنة على كتابة النص، (الطفل - الماء- النخل) دلالة وتعبيراً، وهذا العنوان الشعري، منذ البدء يحيلنا إلى (الحلم/ الغائب)، لأن النخيل التي ليست في الحدائق، هي مرموز الحياة التي ليست في البيوت ولا في الشوارع، فهي غائبة أو مغيّبة، ولا يحضر منها إلا مخيالها في القلب، كحلم تطارده الكوابيس.

هذه (القصة- القصيدة)، مثلما الشعر، لا يمكن تلخيص جوهرها الحكائي، وإنما يمكن الإشارة وحسب، إلى أقطاب حركة النص في بعض تجاذباتها أو افتراقاتها.

يبدأ النص بهذه الجملة:

«اليوم قصيرٌ، كحبة رمل، وهو حلم أبيضٌ، و كوابيس».

هذه الجملة الشعرية المقطّرة، تشير إلى الزمن وقد صار شيئاً مادياً، فقد سيولته وحركته، وغدا صراعاً بين قطبين، هما: الحلم والكوابيس.

في «الحلم»، وفي زمن غياب النخيل، يلتف الأطفال والشيوخ وسارد النص حول مخيالها، فيرونها تصب الماء على رؤوسهم، وتفتح قلبها الحلو للأطفال، وتتشقّق التربة من تحت أقدامهم ، عن فسائل صغيرة، كعددهم... وينتشي الراوي بهذا الحلم الذي يشبه الجنّة، حين يقول: «أرفع عيني إلى النخيل، وأملأ جيوبي بالبلح الأحمر والأصفر، ثم استمع إلى صوت غناء».

لكن القطب الآخر «الكوابيس» يباغت أحلامهم، ويعيدهم إلى جهنم الواقع، حين يقولون « وتتشقق التربة من تحت أقدامنا عن أعشاب قميئة كالقنافذ».. فيما يملأ السارد جيوبه من بلح الأحزان!!

وفي مطلع المقطع الثاني تجيء هذه العبارة:

«الليل ليس طويلاً كالطرق، وهو حلمٌ أبيض، وكوابيس»

وفي هذا الجزء، لا يبقى القطبان (الحلم، والكوابيس) منفصلين عن بعضهما، وإنما يدخلان مرحلة الصراع في أعماق الواقع.

«الرياض غيمة ضوء كالشراشف، والليل ناصعٌ كالموتى، وأنا أركض في شارع فسيح..» . وحين يقابل صديقاً له، أمام العصارة، يسأله:

« - عصير

- شربت كأسين من الأحزان الآن!

- أجنبي

- وطني، ذلك النوع الأسود

- هل أكلت سندويتشاً من الحزن المجمّد؟

وقال لي:

لقد تعفّنت أحزاني، فأنا أرصّ أحزاني كل ليلة، وأنا عائد إلى النوم، حتى امتلأت غرفتي» ( ج ي م - ص 10)

وفي أفق درامية صراع قطبي الحلم والكوابيس، التي يمكن أن نجد أشباهها في قصص كافكا، وروايات كامو، ومسرح صمؤيل بيكيت، ينفتح النص على حكايات كثيرة تعمّق معنى ذلك الصراع الأزلي بين القطبين، حيث لا يميل النص إلى انتصار أحدهما على الآخر، و إنما يفتح أمامنا نافذة جديدة لرؤية ذلك الصراع، في بنية جمالية مختلفة.

وهكذا نرى أن توظيف القاص لملكته الشعرية المدهشة، في كتابة النص، لم تأتِ كإضافة جمالية وحسب، وإنما كبنية سر دية مختلفة، تنهض على ما تفتحه البنية الشعرية من ممكنات: التخييل، والانتقال والتجاور، وتعدد مستويات الدلالة والإحالة، والقراءة والتأويل، من جانب، وفيما تتركه من أثر على المُستقبِل، المشارك في صنع حياة النص وآفاقه الدلالية واليومية، من الجانب الآخر.

-

- الدمام

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة