Culture Magazine Thursday  06/06/2013 G Issue 409
فضاءات
الخميس 27 ,رجب 1434   العدد  409
 
كتب..لاتستحق ورقها
عبدالله العودة
-

 

يذكر الأديب العقاد قصة لطيفة حصلت له في مكتبته حين دخل فيها أحد العمال مرّة لتصليح شيء تالف في الغرفة..فرأى الكتب تملأ المكان فوق الرفوف وتحتها وعلى الأرض.. وفي كل اتجاه فتوقف هذا العامل وصار يلتقط كل كتاب في الأرض يقبّله ويضعه فوق الطاولة حتى كاد يضيع وقته في تقبيل الكتب ووضعها وكاد أن ينسى مهمته.. فضحك منه العقاد وجلس يقنعه بأن هذه الكتب فيها السيء الرديء والقيّم الثمين..وليس كلها محل التقدير والتبجيل.. وليس كلها مجال التقدير والتقديس.

ففتح له العقاد أحد الكتب وعرض له فقرات من هذه الكتب ..وكيف أن بعضها فيه الشعر الماجن والقول الرديء.. والنكت المبتذلة.. وفي بعضها التصاوير الجميلة وفي أخرى الصور الجريئة.. حتى تغيّر وجه العامل وكان متكئاً فجلس.. وتعوّذ بالله من بعض مارأى.. وغيّر رأيه.. وأخيراً اقتنع بكلام العقاد في أن هذه الكتب التي يكتبها البشر ويؤلفها الناس ليست مقدسة وأن بعضها ثمين لكنه غير هام.. وبعضها أخّاذ ولكنه غير صادق.. وبعضها الآخر لايستحق الورق الذي كتب فيه.. وبعضها فارغ لا لون له ولا طعم ولا رائحة.

وقبل أن تأتي المطابع للعالم.. كان الحس الشعبي والعلمي هو مقياس انتشار كتاب معين وقاعدة رواجه.. لأن الكتاب لاينشر بحكم أن مطابع خاصة تنشر كل شيء.. ولكن لأن هؤلاء النساخ والكتبة المهتمون علمياً ينسخون الكتب التي يحبون ويرغبون ويطبعون الكتب التي يريدون. ولكن في التاريخ الأبكر كان القارئ شخصياً يمسخ الكتاب الذي يريد ويطبعه بيده فيكون قرأه واحتفظ بنسخةٍ منه، ولذلك كانت هذه عادة طلبة العلم والعلماء في نسخ كتب من قبلهم وطباعتها بأيديهم مع مافي ذلك من المشقة ولكنها لديهم كانت وسيلةً لمعرفة طالب المعرفة الحقيقي. وهذه العادة بكل تأميد سلبيتها في وجود التحكم الشخصي بنوع الكتب المنسوخة وايجابيتها حضور العنصر الشعبي في تقييم الكتب المروّج لها خارج المؤسسات الصخمة وشركات المطابع.

وفي كتب التعليم والتعلم.. أبوبٌ تقنية خاصة في شكل الكتابة وطرقها والتنقيط والأدوات الكتابية الأساسية والمساعدة مثل المحبرة والدواة.. إلخ. وكتب لآداب النسخ والنهي عن الكتابة الدقيقة التي تشكل على القاريء وآداب لتصحيح الكتب .. والضرب على الأخطاء وحكّها بمعني شطبها وتعديلها.. والنهي عن الاستعجال في ذلك حتى لايصحح القاريء شيئاً عجز عن فهمه وإداركه وغير ذلك.

وفي المقابل يبدي بعض المهتمين بالعلوم والعلماء الضيق الشديد بالمشهد التأليفي حرصاً على العلوم وخوفاً على ابتذالها وفقدان قيمتها.. كما تخوف الفالي صاحب الأمالي على معنى «مدرّس» الذي شاع في عصره فظنّ به على غير أهله كماهي عادة المتعلمين الذين يستحضرون دائماً هاجس ابتذال علومهم وادعاء كل أحد لها فكان مماقال الفالي:

تصدر للتدريس كل مهوس

بليدٍ تسمى بالفقيه المدرسِ

فحق لأهل العلم أن يتمثلوا

ببيتٍ قديمٍ شاع في كل مجلسِ

«لقد هزلت حتى بدت من هزالها

كلاها وحتى سامها كل مفلسِ»

(البداية والنهاية لابن كثير: 15: 739).

ولكن في الحقيقة لم تكن مشكلةً على الإطلاق أن توجد كل أشكال الكتب وأنواعها وتعدد مصادرها واهتماماتها وترجماتها.. بل هي سمة صحّية لاشك فيها تساعد على وجود مصادر متعددة للمعرفة وتعددية ضرورية لأي مجتمع يبحث عن الصحة المعرفية. ولكن الحديث حول مسئولية القارئ في قراءته وممارسة القراءة النقدية لتجاوز سيطرة المؤلف على الموضوع وعدم الخضوع التام له كي لا يتم التعامل مع أي كتاب معرفي أو علمي، كما تعامل معها ذلكم العامل في مكتبة العقاد الذي كان يقبّل كل الكتب ويرفعها لجبينه كما يفعل مع القرآن.. فهناك كتب لاتستحق الورق والحبر الذي كتب بها.

-

abdalodah@gmail.com - الولايات المتحدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة