Culture Magazine Thursday  07/02/2013 G Issue 395
فضاءات
الخميس 26 ,ربيع الاول 1434   العدد  395
 
رؤية
ثقافة الحبل والغارب
فالح العجمي

 

للناس في شبه الجزيرة العربية في عصرنا الحاضر مذهب غريب في تحويرهم لمفردات ثقافتهم المتعلقة بالتعاملات، وبتصنيف أنماط البشر، والحكم على سلوكهم، مما لم تعهده - فيما أظن - الحقب الأخرى في تاريخ هذا الشعب، أو المجتمعات التي عاشت على أرضه لأزمنة طويلة مضت.

ومن أكثر ما يسوء العاقل المحايد الباحث في ثقافتهم ذلك التعسف لأمثال وحكم في الثقافة المحلية، لتبدو وكأنها تنطبق على حالات محددة، أو نطاق ضيق يراد تبئيره، ليصبح الحكم عليه قوياً ومؤيداً من قطاع عريض من الجمهور البسيط الذي تهزه منمنمات التراث، والإيحاء بما يستدعيه من قيم. وأظنه لا توجد مقولة استغلت في غير ما وضعت له، كما هي مقولة: «ترك الحبل على الغارب». فهي في الأصل مجاز للصورة الحسية، التي تعني إرخاء الحبل على ظهر الحيوان، لكي يتحرك في رعي، أو ركض غير محدود بطول الحبل، أو دون تقييد صاحبه لحريته (ولو كان إطلاقاً نسبياً). فإذا قيل عن تعامل شخص مع آخر (غالباً ذي سلطة رسمية أو أبوية مع من يخضع لأي منهما) بأنه «أرخى له الحبل على الغارب» أو «ترك له الحبل على الغارب»، فإنه يعني أنه قد أعطاه مساحة كبيرة من الحرية.

أما المقلق في ثقافة التعبير عن هذه المعاني حالياً في المنطقة المشار إليها أعلاه، فهو كون المقولة أصبحت تعبيراً عن «الانفلات»، وليس الإطلاق بإرادة مشتركة، وفهم من الطرفين لتوازن الحياة بين «القيد» و»الإطلاق». فأصبحنا نسمع ونقرأ تعبيرات مثل: «أطلقنا لهم الحبل على الغارب»، خاصة عندما يكون الحديث عن الشباب، أو البنات على وجه الخصوص، «وتركت الأسرة لهم الحبل على الغارب»، «وتركت السلطات الحبل على الغارب»، بينما يكون الحديث عن حرية الفرد في اختياراته.

فهل اختيار تطابق هذه المقولات مع الخلفيات التي تدعو إلى تقييد الحريات نابع من إيمان لدى أجيال هذا العصر بوجوب تقنين حركة الإنسان؟ وأنه يفترض ألا يترك له الحبل على الغارب، أو ينزع عنه، إلا إن كان في إطار حظيرة أو سياج تمنعه أصلاً عن الانطلاق بعيداً؟

تلك آفاق أنثروبولوجية تأملتها وأنا أقارن بين ما يطمح إليه الناس في هذه الأرض، وفي هذا العصر، وما كان يطمح إليه شعراؤهم ومفكروهم وقادتهم في عصور سابقة. فلو تتبعنا شعرهم وفكرهم، لوجدنا كثيراً منه يصف توقهم إلى الأمد الواسع بسعة صحرائهم، والنظرة البعيدة الصافية بصفاء سمائهم. كما أن قادة الرأي والسياسة فيهم يمنحون فرصة الانطلاق للرأي وللأفراد، كما هي الحال للفرس والفرسان. بل إن الأبعاد النفسية لنظام الكتابة العربية، الذي نشأ في كنف شبه الجزيرة، يفسره كثير من الدارسين بسمة العرب المنفتحة على عناصر الكون المرئية (أفق الرؤية وارتفاع السماء كما كان يراه القدامى). لذلك حولوا رموز الكتابة الآرامية إلى رموز تتصف بهذه النظرة السيميائية؛ إذ أصبحت الألف ممدودة، وكل من الباء والتاء والثاء والنون والياء مفتوحة إلى السماء، وبقية الرموز قليلة الانحناءات، ومماثلة لأغلب مظاهر الطبيعة من حولهم، وانعكاساً لمواقفهم مما يجري فيها، أو ما يرونه فيها من أحداث. وظهر ذلك أكثر وضوحاً في فنهم المعماري الذي اعتمد على الانفتاح، إلا ما يحمي من العوارض.

فما الذي جعل عرب شبه الجزيرة في العصر الحاضر ترزؤهم نظرة مختلفة إلى الكون وإلى الانفتاح، ويعادون الانطلاق، حتى لفلذات أكبادهم، وليس لحيواناتهم التي يخافون عليها من الضياع، أو الابتعاد عن المربط في الدار؟ إنها ثقافة القيد، التي جعلت الفرد منهم يظن بأنه غير قمين بقراره.. فتعس الغارب والمغارب!

- الرياض
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 9337 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة