Culture Magazine Thursday  07/02/2013 G Issue 395
قراءات
الخميس 26 ,ربيع الاول 1434   العدد  395
 
قراءة في عمل الفنانة التشكيلية غادة الحسن
تركية عواض الثبيتي

 

انطلقت المفاهيمية في المملكة العربية السعودية على وجه التقريب عام 2004 على أيدي العديد من الفنانين السعوديين الذين وجدوا فيها طريقاً جديداً للخروج عن المعتاد والمألوف و من خلال البحث و التجريب استطاع نفر من المجددين أن يصنع فناً حقيقياً ليثبت وجود الفن المفاهيمي السعودي وإن كان يمثل بقعة صغيرة على خارطة المفاهيمية العالمية ونجد أن هذه الخطوة من الفنانين قد قوبلت بذات العاصفة من النقد التي لاقاها الفن التشكيلي عندما بدأ خطوته الأولى في المملكة العربية السعودية ويرجع ذلك لاعتبارات عديدة منها:

* التوجس من كل جديد يطرأ على الساحة الفكرية السعودية حتى وإن كانت له جذور أصيلة لم تكتشف بعد أو قيد الدراسة ومقاومته بمعاول الهدم المختلفة.

* عدم وضوح فكرة المفاهيمية لدى الفنان المفاهيمي السعودي والتي ترتبط بمعنى التعاطي مع الفكرة حسب المتصور والمدرك في فهم الموقف والقدرة على تحويله إلى عمل حسي مادي.

* اعتباط الأسلوب وخلوه من الفكرة الفلسفية التي يقوم على أركانها.

* عدم وجود الناقد المفاهيمي الموضوعي المتخصص والذي بيده أن يقرأ التفاصيل الصغيرة في العمل المفاهيمي ليقدمها للمتلقي ويقنعه بقيمة العمل.

إضافة إلى الكثير من الاعتبارات الفضفاضة والتي لا يمكن عرضها هنا لضيق المساحة.

وهنا ظهرت المفاهيمية كقضية فنية على الساحة السعودية مثيرة للجدل حيث رأى بعض النقاد العرب أن المفاهيمية أوجدت مرتعاً خصباً لمدعي الفن وخلقت صور من الفوضى في التعاطي مع المفهوم وتبعها صور أخرى من الفوضى في تقدير الأعمال وتقييمها و كيفية الحكم عليها دون الوقوف عليها بموضوعية.

عندما ظهر مارسيل دي شامب بالمبولة ثار عليه عدد غير قليل من المفكرين والكلاسكيين والمجددين أيضاً واعتبروا أن عمله انتهاك لقداسة الفن متناسين الجمال والتجربة الجمالية التي نقوم على تقبلها والاستمتاع بذاتها بعيداً عن الموضوع.

كذلك عندما بدأ الفنان السعودي في طرح أعماله المفاهيمية انقسم النقاد مابين مؤيد ومشجع وكان تقدير العمل يقوم في كثير من الأحيان تقديراً لاسم صاحبه فقط كذلك وجدت المفاهيمية هجوماً شرساً من متذوقي الفن الذين وجدوا أن المفاهيمية انتهاكاً حقيقاً لمعنى الجمال. بالإضافة إلى أن بعض المفاهيمين كانت فكرتهم الفلسفية النظرية في أعمالهم أكبر من تقنياتهم وأدواتهم.

غادة الحسن الشابة التي ولدت ونشأت في شرق المملكة العربية السعودية تحديداً من سنابس القطيف لم تكن في بداية تحصيلها العلمي صاحبة حظ كبير حيث اعترضت طريق حياتها الكثير من محطات الفشل الذريع والتي كانت تصب في نفسها خسائر جسيمة يفنى عليه عصبها خصوصاً أنها لم تختر تلك الطرق التي وجدت نفسها قسراً محمولة على السير فيها وتحديداً محطات الفشل المتعلقة بخط العلم والمعرفة والذي توقف رغماً عنها عند الثانوية العامة لتتزوج وتنجب وتنخرط في الحياة العائلية لسنين طويلة دون تقدم يذكر في المجال العلمي والمعرفي أو التشكيلي رغم ما حققته عند نعومة أظفارها من مركز مرموق يؤكد على أن موهبة ما تسيطر على كيانها الداخلي ثم استطاعت أن تخرج من حصار السنين لتعيد بناءها الدراسي وتتعمق في طرقات الله فتجدها تؤمن بأن كل ما أصابها إنما هو قدر محتوم ومن هنا بدأت حياتها الفكرية المختلفة من حيث الله من حيث آمنت أن الإنسان لن يعيش إلا ما كتب له وأنه لا مناص من القدر ومن حكم الله. السنوات الضائعة من العمر تصبح قيداً عظيماً اجتث من نار يأسر روح الفنان يشعر كلما أدرك ما فاته ناراً تتقد لا يخبو حريقها.

في تلك السنوات زاولت العديد من الأعمال فعملت معلمة للغة العربية، مدربة لفنون الأطفال وبعض الأعمال التطوعية والاجتماعية.

بدأت الرسم طفلة صغيرة تخربش على جدران منزلها وتسعد لمساندة صغيرة تقدمها لصويحباتها بالصف تؤدي عنهن بعض واجباتهن المتعلقة بالرسم فيشكرنها ليكون شكرهن وساماً تعتز به. العشق الكبير الذي كانت تضمره للفن خَبَى وقُبِر سنين طوال حتى عادت إليه بشحذ همته من قبل ذويها والذين سعوا لأن تحقق ذاتها وأن تجاهد لأجل أن تصل أمانيها كان عام 2002 انطلاقتها الجديدة نحو أحلامها من خلال لوحة (جلسة ضحى) والتي كانت تعبر فيها عن تلك العادة التي عكفت النساء من ربات المنازل عليها يتبادلنها بصورة مستمرة كتقليد مجتمعي معروف في كل أقطار المملكة صباحاً فكانت تلك اللوحة المنفذ الذي لفت الأنظار لوجود فنانة مختلفة اسمها غادة الحسن. وكما توالت الصعوبات ومشقات الحياة توالت النجاحات فقطعت غادة خلال سنوات يسيرة مشوار الألف ميل في سنوات قليلة واستطاعت أن تمضي باسمها من المملكة إلى كل من ألمانيا، باريس ،دبي. كما اقتنى العديد من المهتمين الكثير من أعمالها فاقتنت منها وزارة الثقافة والأعلام والأمير سلطان بن سلمان وسيدات من مجتمع دبي ووزاة التعليم العالي.

غادة الحسن تقول إنها كائن بحري نشأ محاطاً بالزرقة ثم وجدت نفسها بإرداة الله محلقة في السماء.

لكنه أخلد إلى الأرض.

وتطل علينا غادة من نافذة المفاهيمية بعمل (لكنه أخلد إلى الأرض) الذي حقق جائزة وزارة الثقافة والإعلام في مسابقة الميديا 2011.

عندما ننظر للعمل للوهلة الأولى نقف مشدوهين أمام فكرة العمل التي تنتصف النطاقين الحسي والعقلي و تتحدث عن الإنسان هذا الطيني الذي صاغه الله من تراب الأرض نفخ فيه من روحه وأسكنه جنته ثم حكم عليه أن ينزل الأرض يعيش ويتكاثر وينقسم إلى جذور مختلفة وصور كثيرة ولغات لا حد لها إنه يحمل فكرة حساسة وملهمة تأخذك لأبعاد فلسفية كثيرة.

ماذا تريد أن تقول غادة الحسن بدءًا من عنوان العمل انتهاء بالمسامير.

لكنه أخلد إلى الأرض

هل كان استفهاماً؟! هل كان استثناءً؟ !هل كان حزناً؟! هل كان اعتراضاً؟!

هنا تتبلور لدينا الفكرة الفسلفية التي تأخذ فيها غادة بنواصي الفكر منا حيث تجمع بين عالمين سماوي وأرضي سبع سماوات سبع أرضين لكنها اختارت للانسان أن ينتهي للطبقة الخامسة لماذا لم تخترق الجمجمة الطبقات لتقع على الطبقة الأخير حيث يتحلل الإنسان ويعود لأمه الأرض كما وعدها الله. يطل السؤال من شرفة عالية جداً لماذا الطبقة الخامسة ليست الأخيرة؟! أكانت تعني بها الخمسين؟!!

هل كانت غادة تجسد لنا نهاية الإنسان. الموت؟! أم كانت تجسد لنا الحَجْر على عقل الإنسان في صورة الانتهاء فاختارت منه جمجمته حيث مركز العقل وهنا بعد فلسفي آخر يرتبط بالحركة الفكرية والعقلية للإنسان مع الإنسان لكنه أخلد الأرض حيث رفض العقل ومعطياته الخاصة وركمه تحت طبقات الجهل والضلال.

لكنه أخلد إلى الأرض. هكذا تضطر لأن تكرر العنوان لتلمس من خلال الحروف معان جسام لا يستطيع أن يأتيك بها إلا أولئك الذين لديهم القدرة على سماع نبضة الحرف.

اخترقت الجمجمة الطبقة الأولى بأثر بسيط ترى ما قد تكون هذه الطبقة؟! الأقدار؟ أفكار الناس؟ القوة السلطوية؟

اخترقت الجمجمة الطبقة الثانية بأثر جسيم أكان ذلك نوع من التحدي؟! أم هي قوة عظمى تحكم وثاقها باستبداد سافر.!

اخترقت الجمجمة الطبقة الثالثة أثناء السقوط بأثر أقل من الأثر السابق؟ ثم تحولت في الطبقة الرابعة إلى كُوة كبيرة تثير لدى المتلقى أسئلة وتأخذه إلى ميادين شتى تختصرها في (اتسع الرتق).

تستقر الجمجمة على الطبقة الخامسة بينها وبين أعماق الأرض الممتلئة بالمسامير طبقتين بذات السماكة هل كانت تلك الطبقة تشير إلى الخمسين حقاً؟! أم إلى المصير الأخير للإنسان؟! الموت أو مناهضة الفكر؟!! أم تريد بعداً فلسفياً لحياة الكَبَد فترصف المسامير متواترة لتمثل لنا المصائب ولتقول إن الأرض الحياة ممتلئة بالكد والمشقة. تشي لنا القوائم بخطى الإنسان وثقب المسامير بالعقبات والصعوبات التي تواجهه.

أقف أمام هذا العمل بدهشة عظيمة أبحث عن أبعاد أخرى كلها تصب في مجال المنطق والجمال وأتسمّر بموازاته أبحث عن عقل غادة لأخاطب فيه المنطق أناوره وأناقشه وأحاوره لأعرف أن قضيته الأم الإنسان في هذا الزمان.

مقاس العمل 220 -150 وارتفاعه 240 سم

خامات العمل

ألوان أكريليك، ورق جرائد، خشب، بعض القطع البالية. قاعدة.

فضاء العمل: شيدت الفكرة على قاعدة خشبية مستطيلة الشكل يخترقها عدد غير يسير من المسامير رصفت بعناية شديدة ترتكز عليه أربعة قوائم من الخشب تنقسم إلى سبع طبقات ورقية استخدمت فيها أوراق الصحف طليت بالمعاجين وألوان الأكريليك لتمنح الطبقة سماكة مقصودة المسافة بين كل طبقة وأخرى متوازية وتأتي على شكل أفقي.

الفراغ بين كتلة العمل يضرب على معانٍ أخرى ويقوم بوظيفة محورية فالمسافة بين كل طبقة وأخرى تشكل مرحلة من مراحل الحياة أو النهاية أو المكابدة كما أنها تعطي إحساسا مثيراً بأن الإنسان أو عقله يمر بمراحل عديدة حتى ينتهي أو عندما يكابد اختراق الجمجمة للكتلة واستواءها على الطبقة الخامسة ربما تشي أيضاً بالمرحلة الزمنية التي كابدها ويظهر التأثير السيكولوجي انحسار، صراع، انتهاء.

التباين بين قاعدة العمل وكتلته يثير معنى الانقسام الذي حدث بين الأرض والإنسان والتكرار في الطبقات وألوانها تعطي انطباعاً بالمرحلية.

كما أن الملامس المختلفة على الكتلة الورقية والقاعدة والقوائم والحذاء تخدم فكرة العمل بمآسي الحياة ومشقاتها التي لا تنتهي.

تركز غادة اللون الفاتح على الطبقات بمزيج من الألوان الأبيض الرمادي، الأزرق، الآجور الأحمر بضربات خفيفة لتوجد علائقية بين القاعدة والطبقات الأصفر الكادميوم لأنها مركز العمل وهي الفكرة التي تريد أن توصلها للمتلقي حيث تقدح همته للبحث فيها عن المضامين الفلسفية. كأن المسافة بين كل طبقة وأخرى عشر سنوات.

خصوصية الوعي تظهر في فكرة العمل والتي تتناول العدد سبع، الأرض، الطبقية، والتي تدل على أن الفنانة تمتلك قدراً غير يسير من فلسفة هذا الكون فتطل علينا من خلال عناصر العمل القاعدة، الطبقات، الجمجمة، الحذائين، المسامير، الحُفاة، القوائم.

خصوصية المفردة المفاهيمية في العمل تتمثل في الجمجمة، الاختراق، الطبقات، الحفا.

خصوصية البناء. يقوم على الرمز المباشر والدلالة التي تنبلج من كل أجزائه.

يبدو لنا العمل كوحدة موضوعية متماسكاً محكماً في تسلسله المنطقي ونموه المطرد فنرى أننا نتقدم في فهم الفكرة كلما انطلقنا من جزء تنامى ليكمل المضمون.

وهكذا تنقل غادة الحسن فكرة الانتهاء إلى واقع نلمسه من خلال عناصر العمل وألوانه فيؤدي بنا إلى المعطيات التي لا يختلف عليها اثنان. الإنسان, الانتهاء، العمر.

المصادر

جيروم ستولينتز. النقد الفني دراسة جمالية ترجمة فؤاد زكريا.

تركية عواض الثبيتي. ضوء وتجليات سلسلة متتابعة من رموز الإبداع السعودي المعاصر.

دكتور يوسف خليفة غراب. المدخل للتذوق والنقد الفني.

مقالات متنوعة صحفية ورقية، مواقع إلكترونية.



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة