Culture Magazine Thursday  07/03/2013 G Issue 399
فضاءات
الخميس 25 ,ربيع الثاني 1434   العدد  399
 
البلاط بين العمامة والطربوش
عبدالله العودة

 

تحدث كثيراً الأديب المصري محمد كرد علي -رحمه الله- عن ما سمي لاحقاً بالصراع بين القديم والجديد وكان يصف ذلك عن طريق الزي.. فاختصر الصراع فيما سماه بين أصحاب العمائم وأصحاب الطرابيش.. أي تقريباً بين المثقفين والشيوخ، ولكن كعادة كثير من مؤرخي «النهضة العربية» بقى رصد موضوع العلاقة بالبلاط مرتبكاً وغامضا..خصوصاً إذا تمت قراءة الجدل بين أصحاب العمائم وأصحاب الطرابيش كنقاش صحي وطبيعي مادام لا يجره البلاط لوحله لأجل حماية ذاته.

وفي توصيف مختلف تماماً لخص الشاعر العربي الذكي أبوتمام بشكل مبكر العلاقة بين العمائم والطرابيش من جهة وبين البلاط من جهة أخرى مقدماً البلاط بسلطته و»سيفه الأملح» على العلم بروايته و»كتابه الأسود»، حينما تجلى في نفثة بلاطية تاريخية مشهودة فقال:

السيف أصدق أنباءً من الكتب

في حده الحد بين الجد واللعب

بيض الصفائح لا سود الصحائف في

متونهن جلاء الشك والريب

ومع أن سياق القصة في أن الموضوع في تكذيب المنجمين إلا أن اللغة التعميمة تشير للقصة والعلاقة بين القلم والسيف.

ومنذ التاريخ المبكر جداً حرص المهتمون بالعلم على الحفاظ على قيمة الاستقلال والمحافظة على التوازن في المجتمع وجاءت أقاويل وأحاديث وآثار وكتبت عشرات المؤلفات في التراث العربي المبكر حول التحذير من الانخراط في مشروع البلاط.. ولكن في كل عصر يقدم كتاب البلاط نموذجاً سخياً من الوضاعة في التملق والتطوع بخدمة أغراض البلاط، وحرق البخور حول قراراته ومواقفه، وترتيل آياته وأبياته حتى كأنها المزامير في مشهد قد يبدو مضحكاً للجميع إلا لمن اعتاد تاريخياً على تلك القصة المعروفة في التاريخ والتي تنتهي غالباً بتلك النهاية المألوفة في كتب الأدب العربي والتي تكون نهايتها «السعيدة» بهذه الجملة: «فقبضها وانصرف».

وفي مجال العلم والمعرفة والرواية قدم الباحث عبدالمجيد الصغير كتابه المهم «الفكر الأصولي» في نضال الفقهاء والمتعلمين والمهتمين وبحثهم عن الاستقلال والمصداقية منذ العهد المبكر الذي جُلِدَ فيه كل أئمة المذاهب على القضاء بل منهم من مات بسبب بذلك، ولأجل هذا كثرت رواياتهم في حفط العلم وصيانته، وصيانة استقلاله.

وكان مما رووا عن مقاتل بن صالح الخراساني قال: دخلت على حماد بن سلمة، فبينا أنا عنده جالس، إذ دق داق الباب فقال: (يا صبية اخرجي فانظري من هذا!)، فقالت: هذا رسول محمد بن سليمان الهاشمي - وهو أمير البصرة والكوفة - قال: قولي له يدخل وحده، فدخل وسلم فناوله كتابه، فقال: اقرأه فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم من سليمان إلى حماد بن سلمة. أما بعد: فصبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته. وقعت مسألة فأتينا نسألك عنها) فقال: (يا صبية هلمي الدواة!) ثم قال: لي: (اقلب الكتاب وكتب: أما بعد فقد صبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته، إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحدا، فإن وقعت مسألة فأتنا فاسألنا عما بدا لك! وإن أتيتني، فلا تأتني إلا وحدك، ولا تأتني بخيلك ورجلك، فلا أنصحك ولا أنصح نفسي، والسلام) فبينما أنا عنده، إذ دق داق الباب فقال: (يا صبية اخرجي فانظري من هذا!) قالت: (هذا محمد بن سليمان، قال: (قولي له يدخل وحده) فدخل، فسلم ثم جلس بن يديه، ثم ابتدأ، فقال: ما لي إذا نظرت إليك امتلأت رعبا!؟ فقال حماد: (سمعت ثابت البناني يقول: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء، وإذا أراد به أن يكثر به الكنوز، هاب من كل شيء).

فكان هذا من الفقهاء والنبلاء ومن أصحاب العمائم الذين يمدون أرجلهم كمافعل أبو حنيفة والشيخ سعيد الحلبي الذي قال: «إن من يمد رجله لا يمد يده».. وحتى من أصحاب الطرابيش-حسب تقسيم كرد علي- فإن من الأدباء وعلماء اللغة والمثقفين من مارس الشيء نفسه فحينما بعث سليمان المهلبي إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي اللغوي المشهور بمائة ألف درهم وطلبه لصحبته, فردّ عليه المائة ألف وكتب إليه:

أبلغ سليمان إني عنه في سَعة

وفي غنَى أنا أني لست ذا مال

شُحيّ بنفسي أني لا أرى أحدًا

يموت هزلًا ولا يبقى على حال

والرزقُ عن قدر لا العجز ينقصه

ولا يزيدك فيه حول محتال

والفقر في النفس لا في المال تعرفه

ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال

ولذلك بقي الخليل بن أحمد على صولته واستقلاله وكانت هذه الطرابيش وتلك العمائم على رغم ما بينها من فروق واختلافات طبيعية وجدل علمي تحافظ على نفسها وتصون مجالها من عبث البلاط واستخدامه، ولذلك كان القاضي الجرجاني يرثي ذلك العلم الذي يتخذه أصحابه سلماً للأطماع الخسيسة والغايات الدنيوية حينما قال:

ولم أقض حق العلم إن كان كلما

بد طمعٌ صيرته لي سلما

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم

ولو عظموه في النفوس لعظما

ولكن أذلوه فهان ودنسوا

محياه بالأطماع حتى تجهما

abdalodah@gmail.com الولايات المتحدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة