Culture Magazine Thursday  07/03/2013 G Issue 399
ذاكرة
الخميس 25 ,ربيع الثاني 1434   العدد  399
 
أبو سليمان في ذكراه الخامسة والعشرين..
أحمد عثمان البسام

 

في السابع عشر من شهر ربيع الأول عام 1409هـ، انتقل إلى رحمة الله تعالى، طيب الذكر السفير الشيخ محمد الحمد الشبيلي، الذي أمضى سني حياته يخدم وطنه ومواطنيه من خلال المراكز التي شغلها: قنصلاً عاماً للمملكة في (البصرة)، ثم وكيلاً لوزارة الخارجية، ثم سفيراً في (باكستان عام 1377هـ، وفي الهند عام 1384هـ، وفي العراق عام 1387هـ، وفي أفغانستان عام 1392هـ، وأخيراً في ماليزيا عام 1398هـ.

ومثلما رفرفت عالياً راية المملكة في سماوات هذه البلاد نيفاً وأربعين عاماً، فقد علا اسم المملكة أيضاً بين شعوبها، وانتشر صيتها الحسن في أوساطها ومجتمعاتها، نتيجة لما كان عليه سفيرها (أبو سليمان) من سماحة وشهامة ونبل وكرم، جعل حكومات هذه البلاد، وشعوبها تشيد بالسفير، وتلهج بالحمد والعرفان للمملكة على ما تقدمه إليها من دعم ومساعدة.

لقد اشتهر الشيخ محمد بكنيته الأثيرة لدى محبيه وعارفيه، تلك الكنية هي (أبو سليمان)، التي ما إن تذكر في مكان إلا ويخطر على بال السامع أن المقصود هو الشيخ محمد، ولا أحد سواه. كما إنها الكنية التي يحلو لعارفيه ومحبيه أن يدعوه بها (مرفوعة الأب) دائماً، إذ أن لها عندهم، حينئذ، إيقاعاً مُحَبباً، لا يحسون بوقعه إلا بـ (رفعه) مهما كان (موقعه) في الحديث من الإعراب.

كذلك هي الكنية واسم صاحبها اللذان يتألقان بخط الذهب، كالوِسام، على (صدر) الكتاب القيم الذي ألفه عنه المؤرخ الكبير والأديب القدير الدكتور عبدالرحمن بن صالح الشبيلي -وفقه الله- الذي دون فيه عن (أبي سليمان) كلَّ شاردة وواردة في حياته الحافلة بالأعمال الجليلة، فخلَّد بذلك أثره ومآثره، وأشاد بمكارمه وأفضاله وسجاياه، ونقل إلى السطور ما كان يجيشُ في الصدور تجاهه من تقدير وحب وإعجاب، بهذا الرجل الإنسان الذي من حقه علينا ألا ننساه، بل أن نتذكره، ونذكره، ونجدد ذكراه، بين الحين والحين، فإننا بذلك نجدد ذكر المثل والقيم والمآثر السامية التي كانت من بين مكارمه وشيمه وسجاياه!.

كتب عنه سمو الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية يقول: (1)

«لقد كان الشيخ محمد الحمد الشبيلي -يرحمه الله- أحد النماذج الفريدة، بما عُرف عنه من الفضائل، وبما تميز به شخصه وسلوكه من سمات وصفات، جعلت منه ما يشبه الأسطورة، لكثرة ما رواه عنه عارفوه ومحبوه من قصص وحكايات تخرج عن المعهود، وتقترب من حدود الخيال».

وكتب عنه معالي الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر يقول: (2)

«لقد كان فريداً في شخصيته، فريداً في حياته، فريداً في خلقه، فريداً في معاملة الناس، وكنا عندما يُذكر حاتم الطائي نشكك أن في الأمر مبالغة، أما بعد أن رأينا حاتم زمننا صدَّقنا بأن هناك حاتماً، وأن أفعالَه صحيحة، رحمه الله رحمة واسعة، فقد كان رجلاً خيراً..!

كما كتبَ مؤلفُ الكتاب الدكتور عبدالرحمن الشبيلي في مقدمته يقول: (3)

(.. أما الآن فالشيخ محمد لم يَعُد -وبخاصة بعد وفاته- مِلكاً لأسرته أو مدينته، فلقد أصبح مِلكاً للوطن بأكمله، دخل التاريخ بصفته أحد أخيار هذا الوطن وأبنائه البررة، فلم تَعُد الكتابة عنه حكراً لأحد، أو بعيدة عن أحد، ولم أعد أنفرد بالقرب منه، فالكل أصبح منه قريباً، والجميع يتفق في نظرته إليه).. انتهى.

لقد كان كتابُ (أبو سليمان) إنجازاً رائعاً قام به المؤلف الدكتور الشبيلي، متسلحاً بالصبر والعزم، فليس سهلاً الإلمام بكل شيء في حياة أي رجل عظيم، كما فعل المؤلف، لأن حياة أبي سليمان بحر لجي بعيد الغور، واسعة أرجاؤه، نائية شواطئة، كثيرة مرافئه وخلجانه، لا يلجه سوى من يجيد السباحة والغوص ليستخرج من أعماقه لؤلؤه وياقوته ومرجانه!

عندما صدر الكتاب، أهداني نجلُه (سليمانُ) -رحمه الله- نسخةً منه، فلما تصفحته وجدت في الفصل المخصص للشعر، قصائد قيلت في الإشادة بـ(أبي سليمان) من بينها عشرةُ أبيات مختارة من قصيدة لي طويلة قلتها في مناسبة سابقة جمعتني في مدينة الرياض بالأخوين سليمان رحمه الله، وقريبه حمد أطال اللهُ عمره، نظمتُ أبياتَها الخفيفةَ بأسلوب بسيط فيه شيء من الدعابة والمزاح الأخوي للتسلية، وقد جئت على ذكر أبي سليمان حيث قلت:

سليمانُ المُحمَّدِ نجلُ شهمٍ

فتىً في الجود ليس له حدودُ

فوالدُه الحبيبُ سليلُ قومٍ

ترنَّم باسمهم بيضٌ وسودُ

فرؤيةُ وجهه للصحب يُمنٌ

وعودُ ركابه للناس عيدُ

وضوع خصاله كالمسك طيباً

ومثل حديثه الحاني نشيدُ

وبالقدر الذي بلغ فيه اعتزازي بهذه النسخة التي حصلت عليها، بقدر ما حزنت على فقده ورحيله عنا، فهو الذي لا يدع أحداً يلتقيه إلا وأغدق عليه الكثير من لطفه وجوده وطيب خصاله، فلا يغادره إلا وفي نفسه شوق إليه، ليستمتع بذلك الخلق الرفيع، وبتلك الابتسامة العذبة التي لا يعبر عنها ثغره وشفتاه فقط، بل تبتسم معهما عيناه وكلُّ ملامح وجهه، التي تشعُّ حينذاك بالنور والسرور، فتعكس ما في داخله من صفاء وحب ورضا، وما في قلبه الكيبر من طيبة وقناعة واطمئنان، قلت في نفسي: عزاؤنا فيه أنه فارقنا بجسمه، ولكنه حي معنا بقيمته ومثله ومآثره التي لن تموت!

إن كان مات، فما ماتت مآثره

فالجسم يفنى ويبقى للفتى العمل

فليس بالجسم يحيا المرء في شرف

بل بالمكارم يحيا في العلى الرجل

فربَّ حيٍّ كما الأموات مُعتبرٌ

وربَّ ميت به الأحياءُ تحتفلُ(4).

غيض من فيض مآثره ومواقفه ولطائفه:

أولاً: عندما زار الملك الراحل (سعود - رحمه الله) مدينة البصرة ضمن زيارته الرسمية للعراق عام 1957م كان (أبو سليمان) قنصلاً عاماً للمملكة فيها، حيث قام بتوجيه الدعوة إلى مواطني المملكة وأصدقائها المقيمين في (البصرة) و(الزبير) لحضور الحفلات التي أقامتها القنصلية أو الجهاتُ الرسمية العراقية على شرف الملك الضيف ومرافقيه، ومن بينها حفل الاستقبال الكبير الذي أقامته محافظة البصرة لجلالته، وكذلك الحفل المهيب الذي أقامه أهالي (الزبير) لجلالته أيضاً، والذي ألقيت فيه القصائد والخطب التي عبروا من خلالها عن ترحيبهم بعاهل المملكة، وحبِّهم لها، وقد دعا (أبو سليمان) - رحمه الله - الكثيرين من مواطني المملكة وأصدقائها ومحبيها، حتى أنه أسكنَ في الفنادق من جاء منهم من مكان بعيد، كما وضع تحت تصرفهم سيارات خاصة بهم استأجرتْها القنصلية خصيصاً لنقلهم إلى حيث مقار هذه الحفلات، ووضعت على كل سيارة منها ملصقاً خاصاً بالقنصلية السعودية، كيلا يعترضها رجال الشرطة والحرس المكلفون بالإشراف على تنظيم وأمن موكب جلالة الملك الزائر.

ومن الطريف ذِكره، في هذه المناسبة، أن رئيس وزراء العراق الراحل (نوري السعيد) كان من بين الذين جاءوا إلى مطار (بغداد) الدولي، في انتظار وصول طائرة الملك سعود، ليكون في استقباله مع سائر الرسميين العراقيين وعلى رأسهم وفي مقدمتهم، ملك العراق الشاب (فيصل الثاني) - رحمه الله - وكان كذلك من بين المستقبلين في المطار جمع كبير من السعوديين والمقيمين في العراق عامة، وفي (البصرة) و(الزبير) خاصة، وهم بزيهم الخاص بهم، فتعجب (نوري السعيد) لكثرتهم، فاقترب من (أبي سليمان) وهمس قائلاً: شيخ محمد.. لو لم أكن متأكداً من وجودي في العراق، لقلت إنني في السعودية!

ثانياً: ومن مواقفه التي تتجلى فيها سرعة الخاطر وحضور البديهة، ذلك الموقف الذي حدثني فيه الأخ حمد الشبيلي، وكان حاضراً الحفل الذي أقامه (أبو سليمان) لدى تسنمه منصب سفير المملكة في (بغداد) للتعارف وذلك عام 1968م، ودعا إليه الوزراء والسفراء، وجمعاً غفيراً من المعارف والأصدقاء الذين امتلأت بهم حدائق السفارة على سعتها، حين أخذ (أبو سليمان) يتجول بينهم، كعادته، مرحباً بهم، إلا أنه افتقد سفيري دولتين عربيتين كان بينهما والمملكة، حينذاك، شيء من الخلاف، فلما بحث عنهما وجدهما جالسين وحدهما في الحديقة بعيدين قليلاً عن سائر المدعوين، فتقدم منهما مرحباً ومقترحاً عليهما أخذ مكان أقرب إلى الضيوف، فقال له أحدهما: شكراً شيخ محمد. هذا مكان (متطرف).. ونحب أن نكون (متطرفين).. فأدرك (أبو سليمان) مقصده، ولكنه تجاهل ملاحظته، فرد عليه قائلاً: (لا بأس.. ما دمتم مرتاحين.. الأطرافُ منازلُ الأشراف).

ثالثاً: اعتاد (أبو سليمان) كلما جاء (البصرة)، يقوم بزيارة قريب له يسكن وعائلته فيها، زيارة سريعة، ولأنهم لا يرونه إلا إلماماً، فقد سعدوا به، وفرحوا لمقدمه عليهم ذلك اليوم وكأنه عندهم يوم عيد.

إلا أنه لاحظ قريبه، أثناء جلوسه معه، متوعك المزاج على غير عادته، فسأله (أبو سليمان)، قائلاً: أراك قلقاً ومنزعجاً.. خير إن شاء الله.. عسى ما شر؟ فأجابه قريبه: (الأرق يا خالي! صار لي أيام لم أذق فيها طعم النوم.. راجعتُ الطبيب فوصف لي دواءً استعملته بدون فائدة.. ونصحني الأصدقاء بالمشي حتى أتعب، ففعلتُ، ولكن دون جدوى! فقال: (أبو سليمان) متظاهراً بعدم الاهتمام: إيه.. الحمد لله.. ظننت عندك (شيء) مُهِم!. فردَّ عليه قريبُه: وهل الأرق غيرُ مهم، يا خالي؟! قال: (أبو سليمان) لا، ولكنك لا تدري عن (أمر) آخر أهمَّ! قال قريبه في لهفة: تكفى يا خالي.. قلْ لي، ما هو هذا الأمر الذي لا أعرفه؟! أجابه (أبو سليمان) قائلاً: ألا تدري أن من طبع (الشبيلي) قلة النوم؟ أو لست منهم؟! حدثني قريبُه قائلاً: ما إن غادرنا (أبو سليمان) بعد عصر ذلك اليوم، إلا وشعرت بالنعاس يداعب رأسي، فأسرعت إلى فراشي، ورحت في نوم عميق، لم أستيقظ منه إلى ضحى اليوم التالي! وكان ذلك آخر عهدي بالأرق!

وصدق (أبو سليمان) في قلة نوم (الشبيلي) فهو عميدهم فيه.. وهو قليل النوم فعلاً، وكأنه يحتج على النوم، ويستكثر أخذه هذه الساعات الطويلة من وقته الثمين الذي يريده لعمل الخير، ويوفره لقضاء الحاجات، فيضِنُّ به على نفسه ليخدم به الآخرين!

رابعاً: ويحدثنا القريبون منه، إنه دائماً في شغل شاغل في أكثر من شأن من شؤون واجباته كسفير لبلاده، فأحياناً يظل ليلَه ساهراً يجول في (بغداد) ليستقبل قادماً، أو يودع مسافراً، أو يزور صديقاً، أو يعود مريضاً، أو يدعو إلى مجلسه ضيفاً، فلا يرجع إلى مقره إلا في الهزيع الأخير من الليل ليأخذ إعفاءةً على كرسي، أو يلجأ إلى فراشه لينام قليلاً!

حدثنا قائد سيارته قائلاً: في ليلة يوم عيد، أمرني بإحضار السيارة، فلما استقلها طلب مني التوجه بها خارج مدينة (بغداد) للتمشية والترويح عن النفس، فتوجهت سالكاً إحدى الطرق الهادئة، وكان الفصل صيفاً، والجو رائعاً والقمر مشرقاً، وأخذت أقود السيارة بهدوء، وبسرعة معتدلة لأدع (أبو سليمان) يغفو كعادته معي في مثل هذه الجولات، وأحرص على عدم التوقف لئلا أوقظه، وصرت أقود السيارة حتى كاد الليل ينتصف فتوقفت، بعد أن أخذ قسطاً لا بأس به من النوم، فسألني: إلى أين وصلنا؟ قلت له: نحن نقترب من مدينة (الكوت) فقال: دعنا نصلها، ثم نعود أدراجنا.. وعدت أسير، وعاد (أبو سليمان) إلى إغفاءته، ولما وصلنا (الكوت) قال: إن (الكوت) على طريق البصرة السريع، وما دام الأمر كذلك، فإننا لسنا بعيدين كثيراً عن (البصرة) وغداً عيد، فدعنا نذهب إليها لزيارة الأخ (أبو صالح) في القنصلية, ورؤية الجماعة عنده، فيصير العيد عيدين! وهذا ما حصل.

خامساً: في بداية التسعينات الهجرية، والسبعينات الميلادية، زار الشيخ محمد مدينة (عنيزة) وكنت، آنذاك، أعمل مدرساً في إحدى مدارسها المتوسطة (فسعد أهلها بمقدمه، وأقبل الجميع إلى مجلسه يرحبون، وفي زيارته لمدينته، دعا (أبو سليمان) أهاليها إلى حفل مهيب، تخلله مأدبة غداء كبيرة أقامتها في مزارع (الغزيلية) العائدة للشيخين الجليلين عبدالرحمن المنصور الزامل وصالح العبدلي، ودعا (أبو سليمان) إلى هذه المأدبة الهيئات التعليمية لمدارس عنيزة كافة، فلبيتُ مع ولديَّ التلميذين في الابتدائية الدعوة، فذهبنا إليه للسلام عليه، فتقدم ولداي لتقبيل رأسه ويديه، ولكن (أبو سليمان) سبقهما إليه، فاحتواهما بين ساعديه وضمهما إلى صدره بحنان ثم طبع قبلة حانية على رأس كل منهما، ولكنهما أصرا على تقبيل رأسه ويده الكريمة بعد ذلك!

قلتُ في نفسي وأنا أرى هذا المشهد الكريم: لله درك (أبو سليمان)! أحببتَ الجميع.. وتواضعتَ للصغير والكبير، فأكبرك الجميع، وأحبك الصغير والكبير، فيا لك من إنسان قل مثلك.. ولا أستغربُ ذلك.. بل الغرابة ألا تكون كذلك.. فلقد ضممتَ الفخر من أطرافه: فأنت من أبناء هذه المملكة العظيمة أولاً، ثم من إحدى مدنها العريقة ثانياً، ثم من إحدى أسرها الكريمة، ثالثاً، وجميع مَن وما في هذه المملكة العظيمة، عريق وكريم.

سادساً: لما توفي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الدغيثر في (الزبير) في الأربعينات الميلادية، وكانت وفاته - يرحمه الله - في ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك، طلبت مني أرملته، وهي جدتي لأبي، أن أذهب تلك الليلة إلى (البصرة) وكان الوقت يقترب من منتصف الليل، وذلك لإبلاغ الشيخ محمد الحمد الشبيلي، القنصل السعودي بوفاته، فذهبت فوراً، ولما وصلت بمنى القنصلية وجدتها مفتوحة والأنوار تغمرها من الداخل والخارج، فدخلتها وسألت عن الشيخ محمد، فقيل إنه في مجلسه مع ضيوفه، فاستأذنت الدخول إليه، وأخبرته بوفاة الشيخ عبدالعزيز، فقام من مكانه مسرعاً ودخل مكتبه، ثم عاد والاهتمام باد على وجهه ومعه نائبه الشيخ محمد المنصور الرميح، وكان وقت السحور وشيكاً، فقال: (أبو سليمان): دعونا تنسحَّر أولاً ثم نتوجه إلى الزبير، وكان السحور جاهزاً، فتناولنا شيئاً منه على عجل، ثم أمسكنا، وركبنا سيارة القنصلية، الشيخ محمد الشبيلي، والشيخ الرميح، وكاتب هذه السطور، متوجهين إلى الزبير ثم إلى مقبرة الحسن البصري، وجيئ بالجنازة مصحوبة بمجموع المعزين، بعد الصلاة عليها في الجامع الكبير، وبعد أن ووري عليها التراب، وقف الشيخ محمد والشيخ الرميح، وأهل الفقيد وأقرباؤه لتلقي التعازي من الحاضرين، ثم غادر الشيخان الكريمان، الشبيلي والرميح، المكان عائدين إلى (البصرة) مودعين بالشكر والتقدير.

كان المتوفى - رحمه الله - الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الدغيثر من رجال الملك عبدالعزيز الأوائل الذين خاضوا عدداً من المعارك تحت رايته المظفرة، وبعد توحيد المملكة انتقل إلى الزبير، حيث تزوج فيها فأنجب من زوجته ولده الشيخ (محمد بن عبدالعزيز بن عبدالله الدغيثر)، والذي استدعاه، فيما بعد، الملك عبدالعزيز للعمل موظفاً في الديوان الملكي، أما والده - يرحمه الله - فقد بقي في الزبير على علاقة وثيقة بالمملكة، إذ كان بمثابة قنصلها الفخري، وكان بيته مفتوحاً ليلاً ونهاراً لاستقبال القادمين من المملكة واستضافتهم وإيوائهم ريثما ينجزون أعمالهم المكلفين بإنجازها في (البصرة) و(الزبير)، ثم يغادرون، ويأتي غيرهم وهكذا.

كما أن الشيخ محمد، قنصل المملكة في (البصرة) صديق للشيخ محمد الدغيثر، وكان كلاهما من موظفي الديوان الملكي في عهد الملك المؤسس (طيب الله ثراه) وكان على معرفة واتصال دائم بوالد الشيخ محمد، في (الزبير) حيث كان يزوره ويتفقد أحواله وحاجاته، كما هي عادته - يرحمه الله - مع سائر مواطني المملكة المقيمين في (الزبير) و(البصرة) خصوصاً، أو في العراق، بصورة عامة!

سابعاً: كان (أبو سليمان) - يرحمه الله - ذا ميل للفُكاهة، وحُبٍّ للنكات والمزاح النظيف، كم عُرف عنه حبُّه لسبك و(حبك) المقالب الظريفة على من (يمونُ) عليهم من أصدقائه ومعارفه، وهذا ما سبقني إلى ذكره الدكتور (عبدالرحمن الشبيلي) في كتابه عن (أبي سليمان)، إذ قال: (كان يحبُّ المزاحَ وصناعةَ المقالب الخفيفة ويتذَوَّقُها، ويروي قصصها بأساليب متجددة، كما كان يجيدُ صياغة الطرائف والنكت، ويتداول الكثير من أقارب الشيخ محمد وأصدقائه وعارفيه العديد من القصص والطرائف والمقالب التي صدرت عنه أو شارك فيها). انتهى.

وهذا ما حصلَ لأخي عبدالمحسن - يرحمه الله - فقد كان واحداً من «شهداء» مقالب الشيخ محمد، إذ كان أخي، وقتذاك، مقيماً في مدينة (كَلْكَتّا) في الهند، ولم يكن قد حظي بعد برؤية الشيخ محمد من قبل، حيثُ غادر أخي (البصرة) التي كان يسكنها عام 1941م، أي قبل أن يأتي (أبو سليمان) إليها، قنصلاً عام 1943م، وكان الشيخ محمد -آنذاك- قادماً لتوه إلى الهند منقولاً سفيراً للمملكة فيها عام 1964م، وقبل مباشرته عمله في السفارة، مرَّ على بعض أصحابه من التجار في مدينة (بومباي) فسألهم إن كان أحدٌ غيرهم من (الجماعة) موجوداً هنا، فأخبروه عن أخي، فسافر من (بومباي) غرب القارة الهندية إلى (كلكتا) في أقصى شرقها، ولما وصلها، كان يرتدي البدلة (السترة والبنطلون) وليس الزي العربي، وذلك إمعاناً في التنكر، فلم يعرفه أخي، وبدأ (أبو سليمان) سبك مقلبه بإتقان، ولولا خشيتي إطالة المقال، فوق ما طال، لقلت الحكاية من أولها، وقد أرويها فيما بعد، إن شاء الله.

رحم الله من انتقل إلى جواره ممن ذكرنا في هذا المقال وأسكنهم الجنة.

وأطال الله أعمار الأحياء منهم، وألبسهم ثياب الصحة والسعادة.

* * *

1, 2، 3: من كتاب (محمد الحمد الشبيلي) (أبو سليمان)

أرقام الصفحات: 14، 256، 19: على التوالي.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة