Culture Magazine Thursday  09/05/2013 G Issue 405
فضاءات
الخميس 29 ,جمادى الآخر 1434   العدد  405
 
بجعة ولسعة عقرب
بثينة الإبراهيم

 

«النهر يستلبني وأنا النهر.

من مادة هشةٍ خُلقت، من زمنٍ ملغوز.

ربما من ظلي نبعت، محتومةً ووهميةً، الأيام.!»

«بورخيس»

* تقول العرّافة لملك بصرى - بناءً على الأسطورة القديمة - إن ابنته ستموت بلسعةِ عقربٍ، فحاول الملك أن يحتال على هذا القول بأن أمر ببناء سريرٍ مرتفعٍ عن الأرض فلا تطؤها قدمها، ولكن المفارقة تكمن في أن قدرها هو الذي صعد إليها على هيئةِ عقربٍ مختبئٍ بين عناقيد العنب التي اشتهت أكلَها فكان فيها هلاكها!

* وليدرأَ الشيخ «نصيب» عن ابنته في رواية خاتم (رجاء عالم - المركز الثقافي العربي 2012) قدراً مماثلاً، فقد قرّر أن يمنحها هويّةً مزدوجةً، فيكون في الحرم والصلوات ومجالس الشيخ ذكراً، ويتحول في الأعراس والولائم إلى أنثى، مثل البجعات المسحورة التي تعود إلى طبيعتها البشرية عند كلّ غروب!

* أتاحتِ الهويّة الضبابية للبطلة التنقّل بين عالمين (الذكورة - الأنوثة) دون كبيرِ معاناةٍ مما قد يعترض من يحاول اختراق عالمٍ لا ينتمي إليه أساساً، وبخاصةٍ في مجتمعٍ يحتفي بالحجب والتضييق ويحفل بها، وكان ذاك أمراً تحسدها عليه بنات العائلة نفسها «لا أعرف إنها تمنحني مكاناً أوسع للحركة أنا لا أطيق البقاء مع أخواتي، في المبيتات ووراء البرقع، أحب نظر الناس في عيني، ونظري في عيون الناس على الطريق.. لا أريد أن أُُخبّأ وفي الوقت نفسه لا أريد أن أنكشف...»

* يمكن القول بأن ما عايشته شخصية خاتم هو ما يُعرف بـ «تعدّد الشخصية الفصامي» في علم النفس، فقد حلّ العرف الاجتماعي والخوف من مصيرِ الأخوة الخمسة محلّ المرض العقلي في منح هذه الشخصية شخصيتين متغايرتين متمايزتين لكل منهما إدراكٌ وتفاعلٌ تفرضه البيئة على تنوع مشاهدها ويُفترض من البطلة أن يحسن التنقّل في هذه العوالم بحيث يدخل إليها ويخرج منها كما تنسلّ الشعرة من العجين دونما أثر!.

* ولكن من يقول إن الشعرة عند سحبها لا يعلق بها شيءٌ؟ وكذا كانت خاتم، فقد عبّرت عن استيائها تجاه هذه الازدواجية في الهوية في أكثر من موضع (في أحاديثها مع سند ومع زرياب)، والتشوّش الذي أصابها ينتقل حتماً إلى القارئ الذي يصعب عليه الجزم بجنس هذه الشخصيةِ، برغم بعض الإشارات التي أوردتها الكاتبة، كمثلِ إشارة الأم إلى الجسد عند ولادته، وهي إشارةٌ تحتمل خيبة الوالدين بكونها أنثى مرة أخرى، أو بكونها ذكراً {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى}، أو إشارة الخياط إلى الجسد النحيل الذي يزداد طولاً لا خشونةً «ولا أنت قُصبك أزرق؟ قُصب يأكل وينكر؟»، مما يجعلها قصيةً عن عالم الذكورة الخشنة التي يجسدها سندٌ شكلاً وهلالٌ سلوكاً.

* ومثل تلك البجعات المسحورة كانت خاتم بحاجة إلى تعويذةٍ تُلقى عليها فتجعلها تستقرّ في جسدٍ - هويّةٍ وعالمٍ يلائمهما، أو قميصاً يُنسج لها على يد الشيخ نصيب الذي كان عليه وحده أن يقرّر هويتها ليخلّصها من هذا اللبس ويحرّرها من قيدِ الهويتين أو بعبارةٍ أخرى يضحّي بأحدهما، وهو وإن ظلّ متغافلاً عن ذلك، متجاهلاً حاجة ابنته الماسّة لذلك، فقد ظلّ على صمته حتى حين دهم جنود الأمير منزله بحثاً عن الذكور، ومع أن صمت الأميرة كان هو الثمن الذي دفعته لتحرير إخوتها من السحر، فقد صار ثمناً هو الآخر دفعه الشيخ وخاتم على حد سواءٍ.

القاهرة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة