Culture Magazine Thursday  09/05/2013 G Issue 405
فضاءات
الخميس 29 ,جمادى الآخر 1434   العدد  405
 
زلزال المفاهيم الأدبية
د. صالح زياد

 

لم تعد الطبيعة تسبق الثقافة، ولم يعد الواقع قبل اللغة، ولا الفرد قبل المجتمع، ولا المؤلف قبل الكتاب. هذه هي الرؤية الخاصة التي تولَّدت عنها بقدر ما ولَّدتها البنيوية. وهي رؤية تقلب الرؤية التقليدية السائدة رأسا على عقب، فإذا كان من مألوفنا أن نتصور الثقافة بناء تالياً ولاحقاً للطبيعة، كما يسبق الواقع اللغة، والفرد المجتمع، والشاعر الشعر، والمؤلف الكتابة... الخ فقد رأت البنيوية أن هذه الأشياء التي تحتل موقع الأسبقية والأولية تقليدياً ليست إلا مفاهيم وتصورات نشأت في فترة تاريخية وثقافية محدَّدة. فالطبيعة أضيفت إلى واقع الإنسان بنشأة العلوم الطبيعية في القرن السابع عشر، والفرد هو الآخر مفهوم حديث مضاف إلى واقع الإنسان منذ القرن السابع عشر مع بروز دور الطبقة الوسطى في المجتمع وتبلور مفاهيم الحرية والحقوق الحافة بالفرد والمقتضية له.

وليس الواقع معنى طبيعياً محدّداً بل هو مفهوم تختلف الأذهان في تصوره، إنه مثل الطبيعة والفرد مفهوم نشأ بعد أن لم يكن، ونشأته هذه تختلف باختلاف معنى الإحالة فيه، فالواقعية الأدبية منذ نشأتها في القرن التاسع عشر وهي تحيل عليه بما لا يطابق إحالة المثالية الرومانسية، والأدباء الواقعيون أنفسهم يمتلكون مساحة من الاختلاف والتنوع والتعدد التي يتعدد ويختلف بموجبها مفهوم الواقع وصورته الذهنية بينهم. وقد كان الشاعر كينونة مثالية بلغت لدى الرومانسيين درجة عالية من التبلور والتضخم والأولية لكنها في الحقيقة لا تعني شيئاً من دون حسبان اندراجها في الشعر الذي لولا سبقه إياها لما كان لها وجود. وأسبقية الشاعر هذه من جهة وَهْمِيَّتها في البنيوية مطابقة لوَهْمِيَّة المؤلف الذي بدا في البنيوية شخصاً حديثاً، ونتاجاً من نتاجات المجتمعات الحديثة, وفي هذا الصدد يقول رولان بارت: «إن المجتمع حين خرج من القرون الوسطى معضَّداً بالتجريبية الإنجليزية والعقلانية الفرنسية، والإيمان الشخصي بحركة الإصلاح، قد اكتشف (الشخص الإنساني). وإنه لمن المنطقي –إذن- أن يعقد المذهب الوضعي في مادة الأدب أهمية عظمى على (شخصية) المؤلف فهذا المذهب هو خلاصة الإيديولوجية الرأسمالية ومحط غايتها».

لا شيء –فيما ترى البنيوية- يسبق اللغة، ولذلك نجد جاك لاكان يستبدل بعبارة جوتة «في البدء كان الفعل» العبارة الواردة في الإنجيل: «في البدء كانت الكلمة». وهو استبدال يندرج في سياق ما يراه لاكان للغة من دور تشكيلي في الفكر الإنساني، فالبحث عن المدلول في هيئة أفكار أو أشياء غير مرتبطة بكلمات ليس منه طائل ألبتة. وفي كتابه «الكتابات» يَرِد قوله: «إن ما يَخْلُق عالم الأشياء هو عالم الكلمات» وليس معنى ذلك نفي هذا الواقع بالمعنى المادي والفعلي، وإنما هو نفي إدراكي ومعرفي، فما لا يملك تسمية فإنه لا يدخل في حيز الإدراك والانبناء، إن الواقعي –إذن- وجود مترتِّب على اللغة، أي على قدرة الإنسان على تسمية الأشياء. ولا تختلف كينونة المرء وذاته عن ذلك، فإدراكها –فيما يرى لاكان- لا يتم إلا عبر اللغة التي تسبق الإنسان في وجوده، ومعنى ذلك أن المرء حين ينطق ذاته لا ينطقها ابتداء فهي منطوقة سلفاً.

ولقد كان بحث لاكان عن «مرحلة المرآة من حيث هي تكوين لوظيفة الأنا» (1949م) أحد تجليات تدليله على دور اللغة في خلق الذات بما هي صورة متخيلة ومرغوبة ودوماً في قبالة آخر. فحين يرى الطفل صورته في المرآة (أو ينظر في عيني أمه ودلالات وجهها الناطقة وهي تنظر إليه) في مرحلة بين الشهرين السادس والثامن عشر من عمره، تتطور لديه القدرة على التعرف على ذاته واختلافه عن غيره. وهذا التطور مبني على عبوره إلى النظام الرمزي والتخييلي فصورته في المرآة دال يشير إلى أناه التي انقسمت الآن بين ناظر ومنظور إليه، تماماً مثلما يجد في نظرة أمه إليه أنه موضوع صورة مرغوبة منها ويَفْتَرض أنه مدعو ليكون إياها، وبذلك يبرز الانفصال بين الرمز الدال على الذات وبينها، ذلك الانفصال الذي لم تكن الذات قبله ذاتاً حين كانت واحدة، أي بلا دلالة عليها. وقد غدا الرمز هكذا -لدى لاكان- هو ما يؤسس الوجود البشري، وأصبح اللاوعي بِنْيَة لغة، وهي تصورات اقتضت –لديه- الكيفيات البلاغية بوصفها أدوات لتفسير العلاقة بين الدال والمدلول فالاستعارة والكناية والحذف والذكر والتقديم والتأخير... الخ جزء من تكييف الدلالة وبلورتها والوعي بها.

وهذه المعاني كلها هي ما يصنع جوهرياً النظر إلى الأدب والدراسة له من وجهة البنيوية، فالأدب لا ينشأ من الواقع بمحاكاته أو الانعكاس له ولا من الانفعالات والمشاعر بالتعبير عنها، وإنما ينشأ من الأدب. وقد أدى ذلك إلى تعظيم دور الناقد الأدبي الذي كان ثانوياً بالقياس إلى الأعمال الأدبية الإبداعية، لأنه كان يقف عند حدود الوساطة بين الأدب وجمهوره، ويمارس فعلاً طفيلياً على الأدب. وقد جرى الانتق اص من الناقد منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر خصوصاً عند الشاعر الإنجليزي ماثيو آرنولد (-1888م) في حسبانه له بمثابة أديب فاشل. وكان نورثروب فراي في كتابه «تشريح النقد» (1954م) الذي يدرجه المؤرخون للنظرية في مرحلة وسطى بين النقد الجديد والبنيوية، وتأخذ أطروحات عديدة لديه صفة بنيوية خالصة، قد أضفى على الممارسة النقدية دوراً أصيلاً. فللنَّقد لديه حق في مطلق الوجود، وذلك بافتراض أن النقد بنية من التفكير والمعرفة موجودة لذاتها، مع شيء من الاستقلال عن الفن الذي تتعامل معه.

ويحيل فراي الفكرة التي ترى أن الشاعر هو بالضرورة المفسِّر الأخير لشعره أو لنظرية الأدب أو أنه يستطيع أن يكون كذلك، إلى حسبان الناقد طفيلياً أو سارقاً. أما إلحاق النقد باتجاهات تفسير الأدب من خارجه، كما هو الحال في تفسيره تاريخياً أو سيكولوجياً... الخ فإنه –فيما يصف فراي- غلو في القيم التي يحتويها الأدب من الجهة التي تعزى إلى مصادر تلك التفسيرات الخارجية، ويشبِّه هذه الممارسة النقدية بمصفاة تجعل بعض الشعراء يبرزون وتضع آخرين في الظلام والخطأ. ويدرجها كما كل ممارسة يكون مركز جاذبيتها شيئاً آخر غير النقد، في دلالة الإنكار لوجود النقد مادةً منفصلة وبلا حاجة إلى معرفة من خارج الأدب واللغة.

ووجهة فراي على هذا النحو وجهة بنيوية خالصة، وهي وجهة تثوِّر المفاهيم الأدبية والنقدية وتَقْلِبها كما هو ديدن البنيوية رأساً على عقب. ولا بد أن نستبصر عبر هذه الوجهة هاجس الحرية التي يريد فراي للأدب أن يتخلص بها من أي قيمة مفروضة على الأدب من خارجه، فالتفسيرات المجتلبة إلى الأدب من وجهة غريبة عليه وخارجة عنه، تَحْمِلُه على القيمة التي يرى أياً منها علامة عليها وتأشيراً إليها. ولم تتكامل حلقات المنظور البنيوي للأدب وتزدهر في الستينات حتى أخذ ذلك المفهوم الانقلابي للنقد ومعه جملة النظرية الأدبية يشتد ويقوى ويزداد صقلاً وعمقاً في ضوء الهجوم المتعدد الوجوه الذي استهدفه من معاقل النقد التقليدي بمنازعه المختلفة ومن ثكنات المواقع الفكرية السياسية المتعددة. فأصبح النقد لدى رولان بارت كتابة لها وجودها الخاص، وهي كتابة نقدية تقدم نفسها للقراءة وتتّبع الطرق نفسها التي اتبعتها الأعمال الأدبية، على الرغم من أن مؤلفيها نقاد وليسوا كُتَّاباً أو أدباء. إنه فعل كتابي ممتلئ لم يكترث للمؤسسة ولا للعلم بهذا الخصوص، فهو حفي بالطبيعة الرمزية للغة، وقد تمرد على الرؤية الكلاسيكية التي تحد الأدب في وظيفة أداتية أو زخرفية.

وقد مضى بارت إلى تعميق دلالة التعدد في المعنى وانفتاح الكتابة، فإذا كان كل عصر من العصور يعتقد أنه يمتلك المعنى الشرعي للكِتَاب، فإنه يكفي أن نوسِّع التاريخ قليلاً لكي يستحيل هذا المعنى المفرد إلى المعنى المتعدد، ولكي ينتقل الكِتاب من الانغلاق إلى الانفتاح. وبالطبع فإن الرمز ثابت، لكن الوعي الذي يملكه المجتمع، والحقوق التي يعطيها له، هو ما يتغير على الدوام. ولذلك فإن خلود الكتاب ليس –فيما يرى بارت- لأنه يفرض على البشر المختلفين معنى واحداً، ولكن لأنه يوحي بمعان مختلفة للإنسان عبر الأزمنة. وليس هذا التعدد في المعاني الحرفية للعبارة التي من شأن المعاجم وكتب اللغة تثبيتها، وإنما هو فيما وراء المعاني الحرفية من المعاني الثانوية أو معاني المعاني، تلك التي تعمل اللسانيات على تأسيس مشروعيتها والبحث عن كيفية فهمها، وهي معان كثيفة في الأعمال الأدبية، خصوصاً ونحن في إطارها خارج الحياة العملية التي يمكن أن تخبرنا عن المعنى المحدَّد.

ولم يبق بارت شيئاً من عدَّة النقد خارج الإطار البنيوي، وهي عدة يسميها «الممكن النقدي» قياساً على مفهوم أرسطو للممكن الأدبي، أي ما أصبح مألوفاً من المعايير والأوصاف النقدية. فلا الموضوعية ولا الذوق ولا الوضوح، موضع تسليم من بارت، مثلما لا معنى أحادياً ولا أحكام قيمة على الكتابة لديه. فالموضوعية من حيث هي وجود خارج سمة العمل النوعية لضبط شذوذ النقد، تختلف فقد كانت قديماً العقل والطبيعة والذوق، ثم كانت قوانين الجنس والتاريخ، وآلت من بعد إلى التماسك النفسي وحقائق اللغة... الخ. فبأي مفتاح يغدو النقد موضوعياً أمام شتات مقولات ونماذج مختلطة في تحديد مقياسها، فضلاً عن اختلاف كل جهة من جهات هذه المقولات وتعدد دلالتها، وما يرث الأدب عن معياريتها من ابتذال. وليس الذوق والواقع وما إلى ذلك سوى ما اعتدنا عليه، إنه فيما يصفه بارت ساخراً: «مَنْع الكلام»!. ولا يخفى على بارت ما في عدَّة الممكن النقدي من تحيُّز إلى رؤية سياسية وإيديولوجية، وهو ما يفضح به دعوى الوضوح في اللغة الفرنسية، تلك الدعوى التي وُلِدت في الوقت الذي رغبت فيه الطبقات العليا في فرنسا –فيما يقول بارت- في أن تجعل نقدها لغة عالمية، وذلك بادعاء منطق مطلق للفرنسية. وينسف بارت هذه الدعوى بمنطق اللسانيات الحديثة التي تقرر أن الفرنسية ليست أكثر أو اقل منطقية من أي لغة أخرى، ويعمد إلى السخرية بها من زاوية الوصف الطبي فهي بتعبيره «مرض قومي سنسميه عناية تثبيت المعنى»!.

ولن يتم تمام التصور البنيوي للأدب دون أن نأتي على مقولة «موت المؤلف» التي تمثلتها البنيوية جيداً من حيث هي رؤية محايثة ومتزامنة للعمل الأدبي لا تبحث عن علة له أو مصدر وراءه. والمقولة عنوان مقال لبارت (1968م) افتتحه باقتباس من رواية بلزاك «سارازين» لكلام الشاب المخصي المتزيي بزي امرأة، وتساءل عمن يتكلم هكذا؟ هل هو بطل القصة؟ أم هو بلزاك الفرد بمعرفة عن المرأة من تجربته؟ أم بلزاك المؤلف يبشِّر بأفكار أدبية عن الأنوثة؟ أم هي الحكمة الكونية؟ أم علم النفس؟ ويجيب على ذلك بأن أحداً لا يمكن له أبداً أن يعرف، معلِّلاً ذلك بأن الكتابة هدم لكل صوت، ولكل أصل، فهي هذا الحياد وهذا المركَّب وهذا الانحراف الذي تهرب فيه ذواتنا وتتوه فيه كل هوية. ويحيل على اللسانيات التي قدَّمت –فيما يقول- أداة تحليلية نفيسة لتدمير المؤلف، فقد أوضحت أن التعبير في جملته إنما هو سيرورة فارغة تعمل بشكل كامل دون ضرورة إلى ملئها بشخص المتخاطبين.

وقد نتج عن ذلك ما يمثِّل منعطف بارت إلى ما بعد البنيوية من تفضيل بارت للدلالة بلفظ الكتابة في موضع الدلالة بالأدب، وظهور مفهوم «النص» بديلاً عن مفهوم «العمل» الذي ارتبط بالدلالة على مؤلفه وبانغلاقه في وقت معاً، بخلاف «النص» فإنه دلالة على فضاء بلا معنى قصدي أو أحادي، تتزاوج فيه –على حد وصف بارت- كتابات مختلفة دون أن يكون أي منها أصلياً، إنه نسيج لأقوال ناتجة عن ألف بؤرة من بؤر الثقافة، وهذه دلالة «التناص» التي أخذت تغتني بعد ذلك في ما بعد البنيوية. ولا ينفك عن ذلك ولادة «القارئ» فالمؤلف الذي استحال إلى فضاء لذلك التلاقي والافتراق للنصوص، ومات من حيث دلالته على امتلاك معنى النص وتوحيده، اقتضى ما ينتج به معنى النص ويتحدَّد وهو القارئ، ولكن القارئ هنا هو الآخر لا يستطيع أن يكون شخصياً إنه -فيما يقول بارت- «إنسي من غير تاريخ، ولا سيرة ذاتية ولا تكوين نفسي». والمعنى الذي تترامى إليه البنيوية في ذلك كله هو تحرير منشط الكتابة الأدبية والنقدية دون أي ارتهان أو هيمنة على المعنى، وهو تحرير يستمد من وحدة النفس البشرية ما تجاوز به البنيوية المركزية بأي معنى.

لكن البنيوية بهذه الصفة نُبزتْ لدى الواقعيين بالشكلية، وقاد البحث لديهم عما يصل بين مفهوم البنية من جهة والأساس الاجتماعي التاريخي من جهة أخرى إلى «البنيوية التوليدية» عند جولدمان. وعلى أي حال لم تسلم هذه ولا تلك من سهام النقد، الذي سيأتي في وقفة على قيمة البنيوية الأسبوع القادم إن شاء الله.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة