Culture Magazine Thursday  09/05/2013 G Issue 405
فضاءات
الخميس 29 ,جمادى الآخر 1434   العدد  405
 
الثقافةُ المُدجَنة
هل الثقافة بحاجةٍ لوزارة؟
ياسر حجازي

 

(أ)

إذا كانت الثقافة ليست مع السلطة فكيف تكون لها وزارة؟ وإذا كانت الثقافة مع السلطة فإلى أيّ مدى تبقى الثقافة حاملة لشكلها ومضمونها وطبيعتها؟

***

كلّما تورّطت وزارة الثقافة والإعلام بتعارضاتٍ بين قراراتها وأعمالها وبين المنتفعين أو المتضرّرين من ورائها، أو كلّما تورّطت بأخطاء تبعاً لوجهات نظر مستقلّة عن منفعيّة تدجين الثقافة، فإنّ آراءً لمثقّفين وأكاديميين تتصدّر المشهد الثقافي مطالبةً بفصل الثقافة عن الإعلام في وزارة مستقلّة، متوهّمة أنّها تساهم في تقديم حلٍّ لضعف الثقافة والمثقّفين، ومتوهّمة أنّ أساس الإشكال محلّه الجمع بين متعارضين: (الثقافة والإعلام)، وأنّ انفراد الثقافة في وزارة مستقلّة خدمة للثقافة والمثقّفين؛ وأيّا كانت دفوعاتهم المشتقّة من مخاطر التأثير السلبي المتبادل بين الإعلام والثقافة، فإنّ دفوعات أخرى تفنّد فوائد الجمع بينهما، ويبقى الجمع أو الفصل وجهة نظر داخل مطبخ السلطة، ولن تخرج الثقافة عن كونها داجنة تحت أيٍّ من التصوّرين؛ وتبقى المطالبات خالية من تصوّرات تردّ للثقافة دورها (المزعج) للسلطة والإعلام والعامّة أيضاً، لأنّ الثقافة خصمٌ لا ينافس السلطة أبداً -كما هي طبيعة المعارضة- على الرغم من أدوارها في النقد والشك والتقويم والتنوير. لذلك فإنّ حصول الثقافة على وزارة مستقلّة لن يُعافيها لأنّ علّة ضعف الثقافة وتبعيّتها ليست في دمجها مع الإعلام في وزارة واحدة، بل في تطويعها ودمجها تحت إمرة أيّ وزارة. ومن هنا أزعم أنّ الخلط بين الثقافة والسلطة أفضى إلى اتجاهاتٍ وخلافات لا تُفضي إلى ما ينبغي أن تفضي إليه في وضع متحرّر عن التدّخل والسيطرة: بدءاً بملهاة انتخابات الأندية الأدبيّة، وليس انتهاء بمحاكم تفتيش فضائية تورّطت الوزارة والثقافة بتأثيراتها السلبيّة، ومحاكم فعليّة دائرة من الوزارة أو ضدّها.

ما هي الأسباب التي ورّطتنا داخلياً بهذا الصراع الموهوم والمسموم والمذموم؟ وإلى أيّ مدى تحتاج الثقافة إلى وزارة إن كانت مع الإعلام أو مستقلة عنه؟ وما هي مسؤولية توزير الثقافة من هذه الصراعات والخلافات الداخليّة بين الأفرقاء!

(ب)

ما هي الوزارة؟ هي على دلالتين رئيستين: دلالة سلطة تنفيذيّة، ودلالة تقديم خدمة. وكلا هاتين الدلالتين الهامتين في طبيعة عمل الوزارة عائد على أصلٍ في المسوؤلية وثقل الحملان في كلمة (وزر)، وهما لا يتوافقان مع الثقافة في أيّ من تطوّرات مفهوم الثقافة الأربعة: (مفهوم التنوير، مفهوم الفنون والآداب، المفهوم الشمولي في الفكر والسلوك والأثر والخصوصية، ومفهوم مابعد الثقافة الذي نصدّر له) فإنّ أيّا من تلك المفاهيم لا يجعلها تحت عباءة السلطة، أو يرتضي تأميم الثقافة وتدجينها في المطبخ السلطويّ بعد سلبها من طبيعتها المنافية للسلطة وللعامة أيضاً وتحويلها إلى أجندة في يد السلطة متأثّرة بمنطق الأكثريّات المؤدلجة والموجّهة.

(ج)

الثقافة ليست مع السلطة، ليست مع الأكثريّة إنّما نطاقات أعمالها وتأثيراتها في معالجة الآثار الفكريّة والواقعيّة السلبيّة التي تخلّفها السلطة ورأس المال على الخاصّة والعامة؛ فطبيعة كلّ سلطة أنّها ذات تأثيرات إيجابيّاً وسلبيّة لأنّها سلطة سيادية نافذة وخدماتيّة؛ ويأتي عمل الثقافة وتحديداً السياثقافة في مناقشة مكافحة الأثر السلبي لتقليصه واتّقاء عواقبه، ومحاولة لاستثمار الأثر الإيجابي حافزاً لتوسعته، وهي بذلك تقلّل من انقياديّة العامة أو أنّها طامحة لذلك، لأجل الوقوف أمام النفوذ الثالوثيّ: السياسي والديني والمالي، كيلا تطغى ضد الناس والتطوّر. فكيف يقبل عقلا أن توزّر الثقافة بينما هي منافية للسلطة ومشاكسة لها! وماذا يبقى من الثقافة حين تتخلّى عن طبيعتها وتلبس الطبيعة الحكومية وتتحوّل: (أ) إلى سلطة بدلاً من ضمير. (ب) وإلى خدمة جاهزة رسمية تمحو التنوّع والتعدّد. (ج) وإلى استهلاك بدلا من إنتاج فكريّ وإبداعي. (د) وإلى مديح بدلا من النقد والشك. (ه) وإلى ظلمة بدلاً من نور. (و) وغيرها من التحوّلات والأعمال التي تناسب السلطة ولا تناسب الثقافة؛ فلمصلحة مَنْ وجود وزارة للثقافة؟

(د)

لا أريد للموضوع أن يبدو متطرّفاً في طرحه لأسئلة حادة في وضوحها، وهي محلّ نقاش -وإن بدا انحيازي لكفّةٍ دون أخرى- فالمسألة على الرغم من وضوحيّتها تكاد تكون غائبة عن طروحات ثقافيّة تبحث في تحرير الثقافة وفي الوقت عينه تجد المثقّفين السلطويّين يطالبون السلطة بتدخّلات أكثر في شؤون الثقافة، فهذه المؤتمرات واللقاءات والملتقيات لا قيمة لها على الأثر الثقافي إن لم تنظّم بفعل أهلي وليس تحت رعاية السلطة، حينذاك لن تخرج علينا (بتوصيات وتبريكات وتشكّرات) لما قدّمته السلطة لمصلحة الثقافة، وهو ما يصعب إثباته في الواقع الفعليّ لطالما ما زال التنوّع الثقافي في منأى عن الظهور، وح قوق الاعتقاد مأزومة بمنطق الأكثريّة، وحقوق الرأي مهمّشة في حدود مظلّة السلطة؛ وهذه مسألة في حدّ ذاتها إشكاليّة تطعن في قيمة هكذا حوارات، وهكذا طبقة مثقّفة مدجّنة على مزاجيّة لاعبي السلطة وأجنداتهم.

(هـ)

حسناً، لماذا نريد وزارة ثقافة؟ لماذا لا نريد وزارة ثقافة؟

إنّ مناقشة هذين التساؤلين ضرورة لفهم مخاطر وجود وزارة للثقافة من عدم وجودها. فإذا اعتبرنا أن الثقافة هي التاريخ والتراث وأنّنا بحاجة إلى وزارة لحماية الآثار والتراث والمخطوطات وصيانة الأرشيف التراثي والوطني وتوقّفنا عند ذلك، لجعلنا الثقافة مربوطة بالماضي فقط، وأنّها حالة حدثت وانتهت، ولوقعنا مرّة أخرى في انتقاء الماضي والتراث الذي نريد أو الذي تريده السلطة والأكثريّة، كما فعلنا في فهمنا الإنساني للدين والانتقائي للمدوّنة التاريخيّة. ونحن بذلك نقصي الإنتاج الحضاري الراهن والامتداد الثقافي لكلّ مكوّنات السكّان، ونلغي أيّ مفهوم لقدرة الحيّ على الإنتاج الثقافي، ونتورّط بتوليد تطرّف ثقافي لا يختلف كثيراً عن التطرّف الديني.

(و)

لعلّ أيّ سلطة حريصة على (توزير الثقافة) إذا شاءت أن تصدّر لثقافة أحاديّة رسميّة تسدّ الباب بوجه أيّ تعدّديّات ثقافيّة، بينما تبقى عاجزة بمفردها إن لم تتوفّر عوامل أخرى ترخّص لهذا التوزير: كغياب التشريعات الضامنة لحقوق حريّات الثقافة في الاعتقاد والرأي تأثّراً بفهم يخلط بين التجمّعات الثقافيّة والتجمعات الحزبيّة، وتخوّف رأس المال من الاستثمار الثقافي، وفوق ذلك كلّه ترآخي وتهاون المثقّف نفسه. ولعلّي تزامناً مع هذه المقالة استحضر الضجّة الثقافيّة الإعلاميّة للتعارض الذي نشأ بين مواعيد: (مؤتمر الأدباء بالمدينة ومهرجان قس بن ساعدة بنجران، والملتقى التنسيقي للجامعات والمؤسسات المعنية باللغة العربية في الرياض) وما نتج عنه من تأجيل جديد لمؤتمر الأدباء، ولست تدري لماذا الحرص أو الضجّة على تعديل المواعيد سوى الهوس الحضوري للمثقفين لكلّ فعاليات ترعاها الوزارة أو تكون السلطة طرفاً من قريب أو بعيد، وهو ما يدعم حجّة السلطة في بقاء الثقافة وشؤونها تحت إمرة وزارة ما؛ هكذا تجد المثقّفين أنفسهم العامل الحاسم الذي يحول دون استقلال الثقافة ويُبقيها تحت وصاية السلطة. من هنا فإنّ أيّ دعوة اليوم لاستقلال الثقافة عن السلطة -والابتعاد عنها قدر ما أمكن- قد لا تجد لها نصيراً إلاّ قلّة في ظلّ غياب (الاستعداد الثقافي) الذي يُمكّن لها تشريعاً وتمويلاً في مواجهة انتشار الثقافة المدجّنة.

Yaser.hejazi@gmail.clom جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة