Culture Magazine Thursday  09/05/2013 G Issue 405
فضاءات
الخميس 29 ,جمادى الآخر 1434   العدد  405
 
حتى سكوتكَ يملأ الدنيا كلاماً..!
مع الأيّام في مجلسِ د.محمّد بن سعد بن حسين
خالد بن أحمد الرفاعي

 

كنتُ أختلفُ معه من حينٍ إلى آخر، وكان (يقبل) اختلافي آناً و(يتقبّله) آونةً أخرى، وربما أخذته الطبيعة - في غفلةٍ من التطبُّع - فغضبَ وأحاطني بعتابٍ دونه العتاب...، لكنه - في الحالين - كانَ معلّماً مخلصاً وأباً جليلاً...

في أواخر عام 1422هـ كنتُ طالباً في مرحلة الماجستير وكانت كلية اللغة العربية في الرياض قد أسندتْ إليه مادةَ الأدب الحديث - فالتقينا...، لم أكنْ مؤمناً في محاضراته ببعض ما يطرح - خصوصاً في سياق الأدب الإسلامي - لكنني لم أشعر في موقفٍ من المواقف بأنّ عليّ أن أجامله أو أداهنه، ولم أشعر لحظة بأنه يتكئ على سلطة ما، أو يحمي جنابَ أفكاره بدفتر للدرجات مبسوط، أو قلم أحمر مجرّد من غمده..

كان يحمل بيمينه صدراً واسعاً وبالشمال هيبته الطويلة، وفي هذا الفلك المشحون بالمفارقات تجلى لي مؤمناً بالأفق المفتوح حتى وهو يحاصر جسده بعباءة سوداء...، لقد كان يحفّزنا على الاختلاف حتى قاربنا التمرّد عليه، ويأمرنا بالتواضع والاستماع واحترام العلم والأساتذة حتى قاربنا الانصياع له...، وكان يسألنا - في مطلع كلّ محاضرة وخاتمتها - عن أسئلتنا ورؤانا...، وربما استنكر - في أيامٍ من العام - بعضنا أو بعضها!

لم أحتمل رأياً جاداً به في محاضرة، ولم أشأ أن أخذل أمله فينا - نحن أبناءَ الجيل الجديد -؛ فتحرّكتُ لأدرِّب نفسي على الطيران، ووجّهتُ إليه سؤالاً مغلّفاً بنزعة نقدية...، كان السؤال مفاجئاً بالنسبة إليه، جريئاً أكثرَ مما ينبغي، فتلقاه بابتسامة لم أفهم دلالتها إلا بعد حين، وأجاب عنه بما رآه كافيا ثم توقّف...، لم أقتنعْ بالإجابة، فشقّقتُ منها سؤالين (وربما أكثر)، ودفعتُهما إليه في صيغة واحدة، كأنّها تقول: «أنا هنا»..!

لم يحتمل الشيخ هذه المجاراة فغضب، وكانت غضبته قاضية، ارتفع صوته في القاعة، وتوجه إليّ بقوله: «من الذي أدخلك الجامعة؟ وكيف سُمِح لك بدراسة الماجستير في هذا المكان؟» زحمة السؤالين، وهيبة الشيخ، وزلزال الكلمات، ونظرات الزملاء، كلها جعلتني أنكمش داخلي، وأتدثر بجِلْدي وبما تبقى من جَلَدي!

سكتُّ، وسكتت الأشياء من حولي...، ولم يبق حياً في القاعة إلا صوته والصدى، أكمل المحاضرة كأن شيئاً لم يكن، وأكمل الزملاء الاستماع إليه، وأما أنا فاندمجت في أسئلة عريضة صامتة عن مصداقية الرجل ومبادئه: هل خدعنا حين كان يحفِّزنا على الاختلاف؟ هل كان يتظاهر أمامنا بالانفتاح يوم كان يطلب أسئلتنا ويغتصبها منا اغتصاباً؟ أسئلة عنيفة وصادمة، كنتُ أجيب عنها بصمت يطير من فمي شظايا..

بعد أن أدينا صلاة المغرب، جاءني سائقه ينقل إليّ استدعاءَه، توجهت إليه، وحين سلمتُ عليه ابتسم، كان الفارق كبيراً بين هذه الابتسامة وتلك، قال لي وقتها كلمات ما زلتُ أحفظها، كما لو كانت نصاً مقدساً لا تجوز روايته بالمعنى: «أنت طالبٌ متميز، وأنا رجلٌ غضوب، لكنني لا أسمح لغضبي بأن يصرِّفني، فلا تخف، واسأل، وناقش، والله يوفقك يا بُني...».

لم تكن دهشتي في لحظات انطفائه أقلّ من دهشتي في لحظات اشتعاله، ولقد غَسَلَتْ كلماتُهُ عني أثرَ كلماتِهِ، وأعادت إليّ شيئاً من توازني، ورمّمتْ ما استطاعت ترميمَه من ثقتي فيه...، لكنني لم أنسقْ خلفها، لقد اتخذتُ كلماته ضماناً لما مضى، ولم أتخذها ضماناً لما سيأتي، ولستُ مبالغاً إذا قلت: إنني طويتُ الكثير من أسئلتي بعد ذلك الموقف، ولم أشأ لنفسي أن تُخدعَ من رجل واحد مرتين!

مرت بنا الأيام، وفي كل يوم كان إيماني به يعلو، وثقتي به تزداد، وفوّق من ذلك إحساسي برغبته في التكفير عن ذلك الموقف...، لقد كان يتلقى أسئلتي باهتمام، ويشيد ببعضها على سبيل التشجيع لا أكثر، وحين منعني عارضٌ صحيٌّ من دخول اختبار أعمال السنة في الفصل الثاني من (التمهيدية) رفض أن أعوّض فواتَ الاختبار باختبار، واكتفى بالتقويم ليمنحني درجةً عالية. بعد التخرُّج هاتفته مباشرة، وطلبت منه أن يخصِّص جلسة أسبوعية في قصره بحي النخيل، نتدارس فيها قضايا من النقد القديم، فأجابني إلى ذلك مشكوراً، واشترط عليّ أنْ أتولى إدارة الجلسة، وأن أختار لها بعناية واهتمام..

بدأنا جلستنا الأولى في أواخر عام 1424هـ، وكانت مقصورة - أوّل الأمر - على الأصدقاء: د.خالد الدخيل، وفهد الحسين، وعبد الله العريني، ثم انضمّ إليها لاحقاً إبراهيم المسلّم، وبشكل متقطّع د.حمود النقاء، وتتالت الجلسات...، فقرأنا عليه فيها «طبقات فحول الشعراء» لابن سلام، و»عيار الشعر» لابن طباطبا، و»العمدة» لابن رشيق، وجزءاً من «منهاج البلغاء»، وقرأنا عليه أيضاً عدداً من المقتطفات النقدية من «نقد الشعر»، و»الشعر والشعراء»، وبعض مصادر الشعر الجاهلي.

استمرت الجلسة خمس سنوات (1424-1429هـ) بواقع جلسة في كلِّ أسبوع دراسي، وكانت تطلّ بنا ساعاتها على تجاربه الثرية في التعلٌّم والتعليم والتأليف، هذا بالإضافة إلى المادة العلمية التي كان يفضي بها إلينا، فنخضعها لحوار يبدأ - في كثير من الأحيان - ولا ينتهي.

في بعض تلك الجلسات أزال لنا الستار عن ذاكرة اجتماعية شائقة، بناها على زوايا من الرصد واسعة، وربما عبّر لنا عن حزنه من بعض طلبته الذين جحدوا فضله حين اشتدّ فيهم المنكبُ وطال الجناح...، ولقد سجّل سيرته الذاتية في كتاب لا يزال مأسوراً في أدراجه، تربو صفحاته على 1000 صفحة، في بعض هذا الكتاب صورة عريضة من كفاحه وجراحه وانتصاراته وانكساراته..

كنا في مجلسه نتدارس الشعرَ أو نتنافس فيه، ونثير القضايا فنحرقها أو نحترق بها، وكنا نستعير من مكتبته الثريّة ما نحتاجه لبحوثنا، وربما أفاد بعضنا من علاقاته الواسعة في التواصل مع ناقد أو أديب أو مفكر أو مسؤول...، وكنا - مع الأيام - نفرش بين يديه مشكلاتنا فنأخذ من تجربته وصفة حكيمة، تعالجها أو تغسل عنا الحزنَ والتعبَ...، ثمّ مرّت تلك الأيام محمّلة بالعلم والمعرفة، والذوات والأشياء، وبما لا يُحصى من المعاني والقيم، وأحسبها ستظلّ حاضرة فينا، تضيء لنا الطريقَ إلى مستقبلٍ يخافنا ونخافه!

إنه أستاذ الجيل كما يلقِّبه أساتذة قسم الأدب في كلية اللغة العربية، وله تجربته الخاصة ومنجزه الكبير، ولا بد أن يظلّا حاضرين في حلقة من حلقات المنجز السعودي، وفي مدوّنات طلبته الأوفياء!

لقد ولد الشيخ كفيفاً إلا قليلاً، وعاش الكفاف المرّ وما دونه...، قرأ بأذنيه وبأطراف أنامله (برايل)، وألّف أكثر من أربعين كتاباً بذاكرته وصوته، وأشرف على عشرات الرسائل العلمية، وناقش مثلها أو زيادة...، وما زالت آثاره الباذخة تحتلّ مكاناً شامخاً من مكتبته الخارجية؛ لتشهدَ له إن قصّرت في حقّه شهادتنا.

غادر مكتبه الجامعي قبل فصلين دراسيين لظرف صحي، تاركاً خلفه نصف قرن يتضوّع عطراً وحبّاً ونشيداً، وصوراً وسيراً ما زلنا نتحسّس نتوآتها - كلّ صباح - على جدران الكلية وبين مداخلها، وسنظلّ ما حيينا نبادله - ونبادل بقاياه أيضاً - بالإخلاص وفاءً، وبالعطاء دعاءً، وبالأيام أياماً...

* * *

إشارة:

«محمد بن سعد بن حسين شخصية مسكونة بالتعب، والمعاناة، والإصرار، وقوة العزيمة...»

(عبدالمقصود خوجة)

@alrafai الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة