Saturday 09/11/2013 Issue 416 السبت 6 ,محرم 1435 العدد
09/11/2013

الشرق في عيون الآخرين (1-2)

مصطلح «الشرق» جغرافياً وثقافياً وأنثروبولوجياً من المصطلحات الشائكة، التي يصعب تحديدها، كما تصعب الإحاطة بأنواعها؛ من الشرق العربي إلى الشرق الآسيوي (الأقصى والجنوبي والجنوب الشرقي والأوسط أو الأدنى)، مروراً بأكثرها تعقيداً: الشرق العربي والإسلامي (بدخول إيران وتركيا وباكستان ضمن هذه المنظومة).

أولى قضايا صعوبة التحديد وجود ما يسمى الدوال الثقافية، وكلمة «شرق» أحد هذه الدوال؛ فليس لها مدلول موضوعي يربط الجهة بثقافة أو عقلية أو طريقة تفكير. بل هي تقسيمات نشأت بالنظر إلى خارطة العالم القديم، قبل أن يعرف الإنسان أن الأرض كروية، وأن الشرق هي جهة نسبية، وليست موضوعية؛ فما يكون شرقاً بالنسبة إلى موضع على الأرض سيكون غرباً على موضع آخر.

وقد أذهل هذا الشرق كثيراً من دارسي الثقافات والتاريخ واللغات على مر التاريخ؛ بدءاً من اليونان إلى الغرب، وأغلب جامعات العالم في عصر التنوير والعصر الحديث. ومن هنا بدأ ينشأ مفهوم ثابت في تلك الدراسات سميت «الاستشراق». هل كان من باب الاهتمام بتلك البقعة الاستراتيجية من العالم القديم، أم من باب السعي خلف الغريب الأطوار، والشذوذ عن القواعد المعروفة في التفكير والسلوك، أم من باب محاولة الهيمنة عليه بعد معرفة طرق تفكيره؟

بالطبع أغلب الشرقيين، وخاصة أصحاب الفكر التقليدي، ومؤيدي وجود المؤامرات، يميلون إلى الخيار الأخير. لكن هل كان كل أولئك المهتمين بالشرق من جحافل المستعمرين، أو السائرين في ركابهم؟ فمنهم الشعراء والمفكرين، الذين لم يتعاملوا مع سلطات بلدانهم على الإطلاق، وكان حبهم للشرق حباً ثقافياً وإنسانياً خالصاً؛ بل إن منهم من أحب الثقافة الصينية أو اليابانية (فعندما نقول: الاستشراق، فلا يعني بالضرورة دراسة الشرق العربي أو الإسلامي فقط، مثلما يظن الموتورون والمسكونون باعتقاد أن العالم أجمع لا قضية له إلا العرب والإسلام). فمن أولئك المتصوفة علميا أو فكرياً من اهتم بثقافات الشرق وأحبها، فجمع منها نصوصاً أو فنوناً أو تعمق في تاريخها وعاداتها، وأنتجوا إبداعاً لم يصل إلى مستوى كثير منه الشرقيون أو المحايدون من غيرهم. منهم على سبيل المثال: الشاعر الألماني المشهور جوته، الذي أغرم بالشرق الفارسي على وجه الخصوص، وتمثل الشاعر الشهير: حافظ الشيرازي. وفي مجال الدراسات النقدية المتميزة قام أحد الألمان من المستشرقين بدراسة الشعر الجاهلي، ومن ولعه بذلك الشعر، سمى نفسه «الورد» نسبة إلى «عروة بن الورد». ومعروف أن الألمان ليست لهم جيوش استعمارية في الشرق على الإطلاق، مما يبطل صلاحية تلك الفرضية القائلة بأن الاستشراق لم ينشأ إلا لخدمة الأهداف الاستعمارية.

وفي رد فعل موازٍ لتلك الفكرة التآمرية من المفكرين العرب المحدثين، ظهرت بعض دراسات تدين الدراسات الغربية الاستشراقية بحجة أنها استعلائية، وغير موضوعية، بالإضافة إلى أهدافها البراجماتية المذكورة أعلاه في استغلال شعوب الشرق. ولعل أشهر تلك الدراسات ما قام به المستغرب العربي إدوارد سعيد؛ فقد كان هذا الأكاديمي الفلسطيني دارساً للأدب الانجليزي، وربما لم يجد استقبالاً له شخصياً مماثلاً لاستقبال الثقافة العربية في دوائر دراسات الاستشراق، أو الاستعراب، كما أصبح يطلق عليها في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان يعمل إدوارد سعيد في حياته الأكاديمية. فأصدر كتاباً هجومياً وغير موضوعي؛ تناول فيه دراسات الاستشراق بالمجمل، ووصف مناهجها بالرداءة، وأهدافها بالمشكوك فيها، وأناسها بالمتغطرسين .. أوصاف لم يكن من المتوقع أن تصدر من أكاديمي درس الفلسفة والآداب الشرقية والغربية. وفي الجزء الثاني سأتناول الأحكام القيمية، التي ينطلق منها العرب في الحكم على الدراسات المتعلقة بالشرق عموماً، وثقافتهم العربية على وجه الخصوص.

- الرياض