Saturday 09/11/2013 Issue 416 السبت 6 ,محرم 1435 العدد

بحث نادر في التاريخ والعلاقات الدولية

لماذا تناصر إيران القضية الفلسطينية؟ 5-6
د. حمد العيسى

نواصل ترجمة هذه الدراسة الهامة للبروفيسور تريتا بارسي وهو باحث ومفكر أمريكي من أصل إيراني. وهي الدراسة المستمدة من كتاب بارسي: «مثلث الغدر: التعاملات السرية لإيران وإسرائيل والولايات المتحدة» (نيو هيفن: قسم النشر بجامعة ييل، 2007):

وساهم التعاون بين إيران ومصر في مجالات: عدم الانتشار النووي، وتبني الاعتدال في سياسة الكتلة العربية، ومعارضتهم لمزيد من التوسع الإسرائيلي في تحريك المواقف العربية والإيرانية لتصبح أقرب إلى بعضها البعض؛ وساهم فوز بيغن في تعزيز هذا التقارب(85). ونظر الشاه إلى بيغن باعتباره متشدداً ومن شأن سياساته غير المرنة أن تقوض إرادة ورغبة السادات للسلام، وهدد بالحد من التعاون العسكري الإيراني-الإسرائيلي إذا لم يبدأ بيغن في اتخاذ موقف أكثر مرونة. وأصدر الشاه تعليماته للجنرال توفانيان، رئيس برامج المشتريات العسكرية الإيرانية، بإبطاء وتعطيل المشاريع العسكرية السرية الإيرانية-الإسرائيلية(86).

خشيت طهران أن سياسات إسرائيل التوسعية في الضفة الغربية من شأنها تصعيد عدم الاستقرار الذي من شأنه أن يوفر للاتحاد السوفياتي ذريعة للعودة إلى الشرق الأوسط. وكما قال مستشار الشاه غلام رضا أفخمي: «أدرك الشاه أنه إذا لم تتحقق مطالب العرب بطريقة ما، فإن فرص السوفيات للعودة واختراق المنطقة ستزيد، لأن العرب لن يكون أمامهم أي خيار سوى طلب معونة الاتحاد السوفياتي»(87).

وفي 9 نوفمبر 1977، قام السادات بمبادرة جريئة لكسر الجمود العربي- الإسرائيلي عندما عرض استعداده للذهاب إلى الكنيست الإسرائيلي(88). أيد الشاه بقوة مناورة السادات على أمل إجبار إسرائيل على اعتماد موقف أكثر مرونة(89). وفي مقابلة مع مجلة نيوزويك، قال الشاه إن «السادات لديه عقد قليلة من السلام مقارنة بأي شخص آخر، بما في ذلك الإسرائيليين.... وأتمنى لو كان لدى إسرائيل عقد أقل»(90). المبادرة المصرية غير المتوقعة أضافت ضغوطاً هائلة على إسرائيل، التي اشتبهت - وكانت مصيبة - أن عرض السادات للسلام من شأنه أن يعزز ويقوي خيار إيران العربي. ومباشرة بعد خطبة السادات، أرسل بيغن وزير خارجيته موشيه دايان إلى طهران، لإعطاء العاهل الإيراني تصوره لعرض الرئيس المصري.

لكن مطالب ديان الأولية بعد وصوله طهران أوضحت بجلاء أن الهدف الرئيس للزيارة كان إفساد خيار إيران العربي. طلب دايان أن يعلن الشاه رسمياً عن وصوله إلى طهران، خلافاً لممارسات إيران السابقة بخصوص علاقاتها الخافتة مع إسرائيل.

كما اقترح ديان أيضاً أن يتم رفع مستوى بعثاتهما الدبلوماسية إلى حالة السفارات الرسمية، (أي أن تعترف إيران قانونياً بإسرائيل). وأدرك الشاه بسرعة أن هذه محاولة إسرائيلية لجعل سعي إيران إلى الخيار العربي مستحيلة، ولذلك رفض مقترحات ديان، متعللاً بنفوذ رحال الدين في إيران على عامة الشعب الإيراني(91).

وحتى قبل زيارة دايان لطهران، حاولت تل أبيب استخدام زيارة السادات للترويج علانية عن وجود علاقات إسرائيلية-إيرانية حميمة، ما سبب الكثير من الانزعاج الإيراني.

وبينما أعادت رحلة السادات إلى إسرائيل التي لم يسبق لها مثيل الحياة من جديد لعملية السلام، إلا أنها سرعان ما تعثرت مرة أخرى خلال المحادثات اللاحقة في الإسماعيلية في ديسمبر 1977. وفي عرض قوي لدعم لموقف السادات، زار الشاه مصر في 9 يناير 1978، وقال للصحافيين إن «مصر تفعل بالضبط ما نعتقد أنه الحق». وهكذا حوّل شاه اللوم إلى إسرائيل بإعلانه بأن الكرة في ملعب إسرائيل(93)؛ في أوائل فبراير من ذلك العام، وضع الشاه المزيد من الضغوط العامة على إسرائيل عبر شجب الموقف الإسرائيلي ووصفه بأنه «غير مفهوم، ومتصلب، وعنيد»(94).

لقد سعى الشاه إلى تجنب المزيد من الحروب في المنطقة للأسباب التالية:

- لأنها ستسلط الضوء على علاقاته مع إسرائيل التي لا تحظى بشعبية في إيران.

- صعوبة التنبؤ بعواقب حروب إضافية، مع تحول محتمل في ميزان القوة ضد إيران.

- توفير ذريعة للاتحاد السوفياتي لتعزيز علاقاته مع الدول العربية المجاورة لإيران.

وصول آية الله

في 1 فبراير 1979، عاد آية الله الخميني إلى إيران بعد 15 عاماً في المنفى وكان في استقباله الملايين من الإيرانيين. وبسرعة تبخرت سلالة آل بهلوي من الوجود وأصبحت الثورة حقيقة واقعة. وبعد ما لا يقل عن ثلاثة أسابيع، قطعت حكومة الخميني جميع العلاقات مع إسرائيل، بما في ذلك مبيعات النفط والرحلات الجوية. وسُلم مقر البعثة الإسرائيلية إلى منظمة التحرير الفلسطينية بحضور قادة الثورة، ورفع ياسر عرفات العلم الفلسطيني فوق مقر البعثة الإسرائيلية السابقة إلى إيران. وبحدوث ذلك بلغ خيار إيران العربي كامل عُنفُوانه(95). موحات الثوار تتجاوز جنون العظمة لدى الشاه وبمعنى من المعاني، تجاوز الثوار جنون العظمة لدى الشاه؛ فبدلاً من مجرد السعي إلى السيطرة على المحيط الهندي وغرب آسيا، سعت حكومة الخميني إلى أن تكون زعيمة العالم الإسلامي برمته. وتماماً مثل الشاه بعد عام 1976، سعى الثوار إلى تحقيق دور سياسي يفوق موارد إيران(96). وكما شرح لي مفكر استراتيجي إصلاحي في الجمهورية الإسلامية: «تخيل لو استطعنا إسقاط صدام وتأسيس جمهورية إسلامية هناك... تلك الهيمنة الإقليمية كانت الفكرة برمتها. لديك الجمهورية الإسلامية في العراق، والجمهورية الإسلامية في إيران. هاتان أقوى دولتان في المنطقة. وهذا من شأنه أن يغير ميزان كل شيء، يمكننا أن نسيطر على المنطقة، لا بل يمكن أن نسيطر على إقليم الشرق الأوسط بأكمله» (97).

كان تصدير الثورة المفتاح لإعادة تشكيل المنطقة من أجل تمكين القيادة الإيرانية لها. سعى الشاه إلى اكتساب الشرعية للزعامة الإيرانية الإقليمية من خلال التدابير التالية ولكنها فشلت في نهاية المطاف في إقناع العرب لمنح إيران الدور الذي تطمح فيه:

- الدعم الأمريكي.

- علاقات قوية ومساعدات عسكرية للحكومات العربية المعتدلة في المنطقة.

- مساعدات مالية للدول العربية الراديكالية.

- الابتعاد عن إسرائيل.

فقد أدت الشكوك العربية - الفارسية التاريخية، فضلاً على الاستياء العربي لعلاقات الشاه الدافئة مع إسرائيل، لحرمان إيران من هذا الدور. إضافة إلى ذلك، كانت الأيديولوجية السائدة في معظم الدول العربية هي «القومية العربية»، والتي بحكم تعريفها ترفض طهران «الفارسية»، ما يجعل القيادة الإيرانية للإقليم غير مرجحة التحقق.

ولكن عبر استعمال خطاب الإسلام السياسي (الإسلاموية)، كانت إيران تأمل بسد تلك الفجوة الفارسية-العربية، ووضع إطار إقليمي طبيعي يشمل، بدلاً من أن يستبعد إيران عن شعوب المنطقة. وخلافا لاستراتيجية الشاه، الذي أسس - في نهاية المطاف - منصبه الإقليمي على أساس تحالفه مع الولايات المتحدة، فإن النظام الجديد لم يملك ذلك الخيار، ولم يؤمن بفائدة مثل هذه الاستراتيجية.

وبدلاً من ذلك، فضلت القيادة الإيرانية الجديدة نهجاً يقوم على التكامل والمصالحة مع جيرانها المباشرين. ووفقاً لسفير إيران لدى الأمم المتحدة [2002-2007] جواد ظريف: «على الأقل بعد الثورة، كان لدى إيران منظور أكثر إقليمية بشأن سياستها الخارجية. لقد وجدت أنه من الضروري... لإدارة علاقاتها مع جيرانها المباشرين... حيث تقع إيران في منطقة تعتبر فيها أقلية، أي أن معظم سكان المنطقة ليسوا بالضرورة محبين لإيران. ولكن في الوقت نفسه، هذا هو الجوار المباشر لإيران وإيران بحاجة إلى إيجاد - بطريقة ما - علاقة مناسبة مع جوارها المباشر، والذي من شأنه أن يقلل من المخاوف التي توجد في إيران لكونها محاطة بجوار فيه أغلبية سنية ومن بعده تماماً جوار عربي قومي»(98).

كما جادل الثوار أن أفضل الطرق لتعزيز أمن إيران على المدى الطويل فضلاً على تحقيق تطلعاتها القيادية هو محاباة ومصادقة جيران إيران العرب بدلاً من محاولة موازنة التهديد العربي من خلال رجحان القوة العسكرية الإيرانية وعقد تحالفات مع دول من خارج المنطقة. ووفقاً لظريف «كانت إيران تحتاج من الناحية الاستراتيجية إلى اتخاذ مواقف قاسية جداً ضد إسرائيل من أجل على الأقل تخفيف - أو حتى إزالة - بعض العداوة أو التي كانت متأصلة في نهج جيرانها ضد إيران»(99).

وبطرق كثيرة، كان الشاه قد توصل إلى استنتاج مماثل في عام 1975، عند توقيع اتفاقية الجزائر مع العراق بالرغم من أن هذا الإدراك تجلى بصورة أقل راديكالية، لا بل تغزل الشاه بفكرة استخدام الإسلام كوسيلة لتحقيق هذا الدور لإيران والأمن طويل الأجل المترتب عليه، كما كشفت مقابلته مع هيكل في أبريل 1975 التي ذكرناها آنفاً.

وبالرغم من ذلك، كان الأساس الكامن في لعبة الشاه المزدوجة أنه - بعكس الخميني - لم يقطع علاقاته مع إسرائيل أبداً. وبدلاً من ذلك، اعتمد الشاه نهجاً علنياً صارماً جداً تجاه إسرائيل وآخر أكثر تساهلاً وراء الكواليس، بالرغم من أن العلاقة السرية مع الدولة اليهودية لم تعد أبداً كما كانت بعد توجهه نحو العرب.

النتيجة

وبالرغم من ثبوت عدم جدواه، فإن ميل إيران تجاه الدول العربية كان بدافع استراتيجي وليس بحافز أيديولوجي وهو أمر تأسست جذوره قبل قيام الجمهورية الإسلامية. وبالرغم من أن الشاه لم يصل مطلقاً إلى غلو السياسة الخارجية لحكومة الخميني، إلا أنه كافح أيضاً لحل معضلة الحصول على القبول العربي لتطلعات إيران لزعامة الإقليم – وهي الطموحات التي كانت بدورها تعود لتفوق إيران النسبي في المنطقة. ونتيجة لذلك، فإن انبثاق هذه التطلعات لم يكن مع عودة آية الله الخميني ولكن مع نمو قوة إيران التي مكنتها من تحقيق إمكانيات قيادتها منذ عهد الشاه محمد رضا بهلوي.

سعى كل من نظامي بهلوي والخميني للحفاظ على (أو تحقيق) موقع إيران الريادي عبر إبعاد إيران عن إسرائيل ومعارضة وجود القوى العظمى في الخليج الفارسي. وبينما سعى الشاه إلى تحقيق هذه الأهداف من خلال الضغط على إسرائيل لتقديم تنازلات، وكذلك الحفاظ على السلام والاستقرار في منطقة الخليج الفارسي من أجل حرمان القوى العظمى من ذريعة العودة لمجال إيران القيادي فيه وسعى نظام الخميني إلى الهدف نفسه من خلال تأجيج التوترات العربية - الإسرائيلية، ونشر التطرف في المنطقة من خلال تصدير الإسلاموية التي تحمل العلامة التجارية للخميني.

ولكن أدرك كلا النظامين أنه لكون إيران محاطة بدول سنية أو عربية، فإن الصداقة مع هذه الدول حتمية لضمان أمن إيران على المدى الطويل. ممارسة سياسة توازن القوى يمكنها أن تقدم لإيران فترات قصيرة من السلام فحسب، بينما تعيش [على المدى الطويل مع هاجس وقوع] حالة حرب دائمة مع جيرانها العرب. وبالتالي، فإن مصادقة العرب اعتبرت السياسة الأمثل. ونظراً إلى أن طهران كانت تعتقد أن العداء الإيراني-العربي لم يكن بعمق العداء العربي-الإسرائيلي، فإنه سيكون من الحكمة أن تستكشف إيران فرص السلام عندما تكون في موقف قوة.

ولكن هذه السياسة أثمرت قليلا من الفوائد لإيران؛ فقد فشلت خلال السبعينيات لأن العرب اعتبروا معارضة إيران لإسرائيل لم تكن قوية بما فيه الكفاية، ولأن إيران فشلت في إبطاء صعود قوة العراق بعد توقيع اتفاق الجزائر. وفي الثمانينيات، أخفقت في المقام الأول لأن المراجعة السياسية الإيرانية (Iranian Political Revisionism)، وسياسات مناهضة الوضع الرهن، شكلا خطراً أكبر على الأنظمة العربية في المنطقة مما فعلت سياسات نظام آل بهلوي. وبالرغم من محاولات نظام الخميني العديدة، فشلت شعارات إيران الإسلاموية والخطابية العنيفة ضد إسرائيل في التمويه وصرف النظر عن التهديد الذي تشكله إيران الثورة على العرب.

- المغرب Hamad.aleisa@gmail.com