Culture Magazine Thursday  10/01/2013 G Issue 393
فضاءات
الخميس 28 ,صفر 1434   العدد  393
 
بين الخيّام وعجائز نيسابور
محمد عبدالله الهويمل

 

يبشِّر الإمام الجويني بـ(إيمان عجائز نيسابور)، على الرغم أن إيمان هؤلاء العجائز غير ممتنع، إذ هو في المتناول ما بقي الأمر إيماناً لا تكليفاً, وقد تحقق للعجائز دون تكلف أو دون عناء أو تقديم مقابل من لذة. واللذة تدخل في كل هذه المعادلات التي تجتهد في بلوغ الحقيقة. واليقين هو أن ترى ما لا يراه أو يشك في رؤيته آخرون؛ ما يعني أنك تتمتع بقدرة خارقة في ممارسة الحاسة، وهذا يمحضك استثنائية جديدة، تبزّ الأقران. وتعاملك ساعتها مع الحقيقة (اليقين) هو تفوُّق ممتع, يجعل لك أهلية مائزة تحيل حالة الكشف والمكشوف إلى ضرب من الدهشة، وتمعن لذتها في كونها استثنائية مخصوصة بأفراد دون آخرين كالظفر بكنز أو جائزة اليانصيب.

هذه الاستثناءات تعيد تفسير الحقيقة من وصف الشيء كما هو إلى لذة وصف الشيء كما هو. وعلى الرغم أنها أشبه بمتعة تقصي الخبر حدّ التجسس وكأنه يخصك، أو يتحكم في قدرك وحظك، إلا أنه مدفوع في اللاوعي بضمير وجودي باطني، يتلمس النهايات؛ حيث إن أي خبر جديد هو نهاية لما قبله أياً كان المبتدأ، حددناه أم لا، وعليه فمنتهى غاية الأسئلة (الجنة) هو مادة الإجابة، وما تنطوي عليه من الشرب والأكل فهي تنشد المنتهى في الري والشبع, فتتمحور دوافعنا كلها حول طلب الغاية الأخيرة للأشياء خلال الجهد في طلب اللذة والجمال، ومنها الموت - كما أسلفت -؛ لأنه خبر يحمل نهاية ونهاية تحمل خبراً, وتتسلسل النهايات حتى تبلغ مداها الأخير, وهو صدق الآخرة ووجود فعلي للجنة والنار، وعندها تكفّ الأسئلة حتى عن الخلود العصي علينا - نحن أهل الأرض - إدراك كنهه، ولكننا لن نطرح أسئلة الخلود إذا عشناها رأي العين وسمع الأذن ووقع الحس, وتحول إلى عادة واستحال غيره إلى مثار دهشتنا واستغرابنا وإنكارنا.

الموت طرف حي في ثنائية القوانين الجديدة التي أدار الله بها حالة الإنسان المستجدة على نظام الله الكوني، أي أنه طرف في ثنائية (الموت والحياة) التي هي امتداد للثنائيات الجديدة الأخرى (الخلود والفناء) و(الحب والكراهية) و(الخير والشر) و(السعادة والشقاء)... حيث يكتسب كل طرف حضوره (جماليته) من الطرف الآخر الذي كانت طارئيته سبباً في حضور (جماليات) الآخر. إذن، الموت لم يكن لولا الحياة بوصفه النقيض أو المقابل. والتناقص لا يعني التنافر الجمالي، بل التضاد الوظيفي. وكم من المتضادات تنطوي على القدر ذاته من القبح والقدر ذاته من الجمال, سواء أدركه جميعنا أو بعضنا، سيما أننا قررنا أن الموت جزء من الحياة، أي جزء من نقيضه الجمالي. ويخفف من حدية هذا التناقص أنهما مخلوقان عند المؤمنين {خلق الموت والحياة ليبلوكم}، مشتركان في الوجود المادي، والدليل خروجهما عن العدم اللامادي, وكل ما يخرج من العدم يدخل في الدهشة والجمال. آية (ليبلوكم) تعني الاختبار الذي يقتضي عرض اللذائذ والفتن والشهوات والشبهات أمام الإنسان. وكلها من مواد الحياة التي هي الطرف الثنائي مع الموت؛ ما يشي بأن هذه الشهوات واللذائذ متكاملة في أصل الخلق مع الموت ذاته الذي يعتبر لذة معنوية عليا لدى من يستحضر هذه المعادلات في وعيه ومنظومة المشاعر اليقظة. والابتلاء يستحضر الموت في تعامله مع اللذة وحيزها في خيارات الحس لديه، وإن كان الموت بوصفه الرقيب في هذا الاختبار يتيح للمؤمن ممارسة أكثر لذائذ الحياة إلا أنه يعترض على أخرى، غير أن الأهم هنا أنه تعامل مع اللذة والجمال على مستويات الأكل والشرب والجنس والنظر والسماع, فكانت علاقة الوعي بالموت مع الجماليات علاقة إيجابية في استيعابه وتوجيهه في مساراته الطبيعية, دون أن يفرض وصاية على أي مستوى في التلقي الحسي المحض في عملية الاستماع، وهذه علاقة جديدة للموت بالجمال واللذة. وتمتد العلاقة إلى فرض الرقيب (الموت) شروطه بوجود الاستمتاع الحسي لمواصلة الحياة, ولا يغيب في هذا المقام استحضار الموت لدى جملة من الشاكين والملاحدة أو فساق المؤمنين على نحو يدفع بالحس تجاه اللذة.

ينهض الشاعر عمر الخيّام ليفلسف لنا علاقة المتعة بالموت على أنها تناقضية عكسية، والحق أنها طرديّة؛ إذ الموت يعني نهاية أو انقطاع اللذة؛ ما ولد قلقاً لدى الخيام دفع به إلى حالة صادقة ومشوشة تجاه اللذة بوصفها معبرة عن الحياة (الطرف الآخر في الثنائية) والموت, ليس بوصفها نقيض اللذة في حالة التشويش، إنما توقف ملغز، ليس له حل, والبحث فيه معطل للمتعة؛ لأنه حل يفتح مفترقات الطرق باتجاهات متعددة ومتعاكسة. واللذة العقلية تصرف عن اللذة الحسية في إهمالها والانشغال بممارسة العلاقة مع مظاهر الطبيعة الأخرى أو ما سماه الله بـ»زهرة الحياة الدنيا»، حيث القلق إزاء الموت كان دافعاً للحياة. إذن، الموت طرف دافع للحياة كما قال الخيام:

أطفئ لظى القلب بشهد الرضاب

فإنما الأيام مثل السحاب

والموت هنا يحضر في رسالة تحذيرية من الخيام؛ إذ الموت يتحرك بالزمن ويحركه (الأيام) كوحدة زمنية تلعب دورها في التحذير من الاستسلام لمفهوم الموت بوصفه ضد اللذة، بل بوصفه داعياً إلى الاستعجال بها، وهذا ما أخذ مداه في وعي الشعراء والحكماء، واطرد طوعاً في اختيارات أنصار اللذة حتى من جهلة العوام الذين شرعوا في ترديد هذه الشعارات منقوصة من جانبها الحكمي, ولكنها تستحضر وعلى جانب طفيف طرفية الموت في هذه الشعارات باتجاه نظرية مكتملة لصياغة حكمة ناضجة عن الجمال واللذة, مدفوعة بزمنية الموت بوصفها داعماً لعلاقة الإنسان بالطبيعة بأن يطفئ لذة اللظى القلبي بلذة شهد الرضاب محاصراً بالأيام التي هي الأخرى مظهر للطبيعة، مكملة للمكان المحتوي كل اللذائذ. البُعد الصوفي يلعب دوره هنا، لكنه تصوف فلسفي يتبناه الخيّام، وجملة عريضة من ذوي الحساسية الذوقية، ولم يندفعوا إلى هذا الجموح إلا بمحرض جمالي مضمر مرتبك الهوية حتى من المتصوف المنطوي على ليس الشك في العلاقة الثنائية بين الموت والحياة فقط، بل البحث عن حضور هذا الإنسان بينهما, وأن الدعوة الإلهية للجنّة بكل جمالياتها ولذائذها ومعاجزها (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب البشر) ودعوة إلى التعامل مع المستحيل الجمالي بعد أن استقرت مستويات التعاطي مع اللذة في أعلى تجلياتها لدى الإنسان المستمتع - بعمق - بمباهج ومتع الحياة؛ ليطرح الإنسان المرتبك سؤاله (لماذا الاستمتاع بالجنة؟ ومهما بلغت من النعيم إلا أنها لذة وحسب؟) وقد يراوده قلق مفاده أنها لذة منظمة، وإن كانت حرة إلا أنها فقدت لذة العشوائية والتعسف والاعتباطية التي تضفي بعداً جمالياً نافذاً في الممارسة الجالبة للذة. وكل هذه الأسئلة الشاكة هي من قبيل طرح أسئلة الأرض على إجابات السماء، وقد طرح علي أحد الملاحدة سؤالاً مستهتراً: (ما الجنة.. أنا لست في حاجتها), والحاجة هنا هي الحاكمة في تحرك الإنسان بين طرفَيْ الموت والحياة لدى هذا الملحد وليس الاستمتاع, رغم أنه ليس في حاجة إلى الاستمتاع بالدنيا وفق هذا التصور مع تكالبه حد الإغماء على المتع - حسب مباشرتي لحياته - وبذل الوقت الباهظ والمال الطائل لنيل أدنى متعة؛ لأنه افتعل (الحاجة) كعلاقة وحيدة باللذة الأخروية, أو لأنها صادمة له بكونها موصوفات تهبط إيمانياً إلى درجة الذهنيات لا أكثر؛ لأنها جزء من درس الغيبيات الذي ينبغي أن يبقى في زاوية الإرهق الذي يعيد الأسئلة المنبوذة بشأن الموت، ودرجته اليقينية والجمالية، وما لليقين والجمال من صلة بالغة التكامل في معرض كلامي عن جماليات الحقيقة.

- الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة