Culture Magazine Thursday  11/04/2013 G Issue 402
فضاءات
الخميس 01 ,جمادى الآخر 1434   العدد  402
 
من انعكاس الواقع إلى تحويله
د. صالح زياد

 

المعركة الأدبية التي اشتعلت بين لوكاش وبريخت، في الثلاثينات من القرن الماضي، استهدفت من قبل بريخت محاصرة مفهوم لوكاش النظري للأدب، والكشف عن ضيق دلالته على الواقعية وتزييفه لها. وهو مفهوم بدا، في مقابل أطروحة بريخت، شديد الأرثوذكسية الحزبية والأكاديمية، تلك التي كان بريخت متمرداً عليها على الرغم من ماركسيته. لقد عارض بريخت الواقعة الاشتراكية مستبدلاً إياها بمسرحه الملحمي ووجهته الفنية التي وصفها بـ»اللاأرسطية» وهما قوام ما يخصص الواقعية لديه ويفسح أرجاءها في اتجاه ما يجاوز بها شكلاً محدَّداً، يقوم على الإيهام بالواقع والوحدة الشكلية والأبطال الإيجابيين. وهذه صفات ثلاث تتضمن مجمل ما أسَّس له لوكاش نظرياً أعني مفهومه للأدب بوصفه انعكاساً للواقع، والوحدة الشاملة، والالتزام. وقد لاحظ رامان سلدن في تسمية بريخت لوجهته بـ»اللاأرسطية» طريقة مستترة لمهاجمة خصومه، وهذا صحيح بمعنى الدلالة بها على انحصارهم المدرسي، لكن هؤلاء الخصوم ليسوا من الدائرة الماركسية فحسب، كما يمكن أن نمثل هنا بلوكاش، بل ومن خارج تلك الدائرة ممن يرون الأدب وفق منطلقات مدرسية شكلية.

فإذا كان لوكاش ينظر إلى العمل الأدبي بوصفه وحدة تعيد التآلف وتوفِّق بين الفرد والمجتمع، والخاص والعام، والجوهر والمظهر، والعيني والمجرد، وهي المتناقضات التي نجم عنها -من هذه الوجهة- اغتراب الإنسان في الرأسمالية، فإن بريخت ينظر إلى الأدب من زاوية كشفه عن المتناقضات لا سترها، والوقوف عليها لا تجاهلها، ورصدها وهي متناقضة لا متآلفة، ولذلك يرى بريخت إيجاد فاصل بيننا وبين الموضوع والشخصيات، في وجهة مناقضة لما كان يتطلبه أرسطو من الاتحاد الوجداني بين الجمهور والبطل المسرحي لينتج عن ذلك لديه «التطهير» من الانفعالات. وهي الوجهة التي يرى بريخت أنها تُخْفِي الفروق الاجتماعية بين الجمهور، ولها سيادة على النظرة الجمالية في المجتمعات ذات الفروق الاجتماعية، وليس ما يؤسس له أمثال لوكاش من منظور جمالي بمنجاة منها. إن بريخت -على العكس من ذلك- يبحث عن إبراز الفروق بين جمهور العمل أو المتلقين له، عن طريق مخاطبة العمل للعقل «ما هكذا ينبغي أن تسير الأمور» والدفع به إلى اتخاذ قرارات ومواقف تجاه تلك المتناقضات تزيحها من الحياة.

ولم تكن الحبكة المتلاحمة، أو النص على حتمية وشمول معيَّنين، في وارد الوجهة النظرية التي طرحها بريخت. فمن الضروري -فيما رأى- ألا يكون العمل المسرحي كاملاً في ذاته، وإنما يكتمل بالطريقة التي يُمارس بها بحيث تكون عملية الاستهلاك له وتلقيه جزءاً من عملية الإنتاج له. أما بنيانه فيتم لدى بريخت دائماً في مشاهد متقطعة لها حرية كبيرة في سيرها، حتى لتترك انطباعاً بأن من الممكن إضافة فصول إليها أو حذف أخرى منها، لكن هذا الانطباع خاطئ فيما يصفه جاك دي سوشيه. وبدلاً من تصور طبيعة شاملة وثابته وذات وحدة عميقة وتجربة تامة للإنسان، يبدو الإنسان كما نلقاه على نحو محسوس في الشارع أو في المصنع، وهو ليس معروفاً على نحو ما يمكن أن نعتقد في ضوء العلوم الإنسانية مثلاً. وقد بدا تغريب الوقائع ونزع الألفة عنها -وهو ما يعيدنا إلى أطروحة الشكلي الروسي فيكتور شكلوفسكي عن تقنية الفن- خاصية جوهرية في مسرح بريخت، فالوقائع تُقَدَّم بطريقة تبدو معها غير مألوفة ومثيرة للدهشة.

هكذا تجاوز بريخت الإيهام بالواقع بقدر ما قضى على الوحدة الشكلية وعلى النهايات الحتمية. ولذلك اتهمه لوكاش بالانحطاط الشكلي، فالرؤية النظرية التي تتكشَّف عنها أعماله وتجلوها فلسفته الجمالية، تقطع مع نظرية الانعكاس لدى لوكاش، وتقطع مع الواقعية الاشتراكية. وقد رد بريخت على اتهام لوكاش له، واصفاً إياه بأنه لم يقدِّم سوى تحديد شكلي للواقعية، وأنه اتخذ من هذا الشكل الذي يصفه بالواقعية، شكلاً كونياً ومطلقاً، وفرضه بطريقة دوغمائية بوصفه الشكل الأرقى من كل أشكال الأدب. أما الحقيقة فتبدو -بالنسبة لبريخت- في نسبية هذه الواقعية من الناحية التاريخية، لأنها مذهب القصة الواقعية في القرن التاسع عشر. والنتيجة التي استخلصها بريخت من ذلك هي أن لوكاش يتجاهل الأساس التاريخي للشكل، ويتساءل باستنكار: كيف يمكن أن نستعير الأشكال التي نتجت عن مرحلة سابقة في الصراع الطبقي لنفرضها على المبدعين كي يعيدوا تخليقها في مرحلة لاحقة؟! ويجيب على ذلك، ساخراً، بقوله: إن ذلك أشبه برفع شعار يقول: «كونوا مثل بلزاك ولكن كونوا أبناء عصركم!».

ويهمنا هنا ما أحدثه بريخت من كسر لطوق الاحتكار للواقعية، لأن لازم ذلك يتضمن الإفساح لتلك الاتجاهات التي رأى فيها لوكاش نزعة فردية انعزالية، وتجريباً شكلياً فارغاً، ونظرة سكونية للتاريخ... إلخ وذلك بحسابها جزءاً في الدلالة على واقع تاريخي، مهما بلغت من التجريد، وأنها تستوي في قابلية الوصف بالواقعية ما دام الوصف بالواقعية وصفاً لا ينفك عن النسبية. وقد وضع روجيه جارودي، في ستينات القرن الماضي «واقعية بلا ضفاف» عنواناً لكتابه الذي جمع فيه دراساته عن ثلاثة ممن يقعون في دائرة أوصاف لوكاش تلك، وكانت أعمالهم مع آخرين على شاكلتهم موضع الهجوم المذهبي عليهم من لوكاش. وأولهم الرسام التكعيبي بابلو بيكاسو والثاني أحد أبرز أمثلة الحداثة في الشعر الفرنسي، وهو سان جون بيرس، والثالث فرانز كافكا، القصصي المشهور بالكابوسية والعدمية والاغتراب. وبالطبع لا يمكن لأي منهم التمثيل على الانعكاس ولا على الواقعية الاشتراكية كما يفهمهما ويريد أن يفرضهما لوكاش.

ولقد اتضح الرفض للواقعية، وملزومها نظرية الانعكاس، لدى مدرسة فرانكفورت، وعلى رأسها الناقدان: ماكس هوركهايمر وتيودور أدرنو، اللذان تبنَّيا فكراً نقديا تجاه التنوير والفكر العقلاني والفلسفة الاجتماعية، لأن ناتج ذلك عملياً هو العقل الأداتي والمجتمع الشمولي والابتعاد عن الجانب الإنساني في الإنسان. ولذلك حظي أدباء الطليعة الحداثية وفنانيها بتقدير لدى هذه المدرسة، لأنهم يقاومون هيمنة المجتمع الشمولي وهذه المقاومة لدى مدرسة فرانكفورت ليس لها إلا مجال وحيد هو مجال الفن والأدب. وقد بدت مقاومة الفن والأدب للشمولية لدى أدرنو في نفيه اتصال الأدب اتصالاً مباشراً بالواقع، فالانفصال بين الفن والواقع هو الذي يصنع وظيفة الفن وخصوصيته. هذا الانفصال هو ما يكسب كتابات الحداثة قوة وقدرة على نقد الواقع ونفيه، وفي المقابل فإن التصاق الفن الجماهيري بالواقع واتصاله به يجعله عاجزاً عن نقده ومستسلماً له. إن الفن -فيما يستنتج أدرنو- لا يسوغ أن يكون انعكاساً للواقع ولنسق علاقاته الاجتماعية الاقتصادية، لأنه -والحالة هذه- فن عقيم، وهو إذا أراد أن يكون فاعلاً فإن عليه أن يمارس دوراً داخل النسق وليس بالانعكاس له، دوراً منتجاً لمعرفة تنفي الواقع الفعلي وتنقده.

أما هوركهايمر فإن مقاومة الفن لديه للشمولية تبدو في رؤيته إليه من حيث هو وسيلة خاصة لتجاوز الواقع. فما يضيفه الفن من رؤى جديدة إلى الواقع يستعصي أن يحتويه ما هو مألوف وسائد من القوالب وأشكال الوعي. إن الفن -فيما يرى- يصدم وعي الناس بوضعهم اليائس، وليس رفض الجماهير لأدب الطليعة إلا لأنه يزعج غفلتهم ويصعق مألوفيتهم لواقع يمارس استغلالهم. لذلك فإن هوركهايمر يرفض أن يكون الأدب مجرد انعكاس للواقع بالمعنى الذي ذهب إليه لوكاش، وهذا هو ما جعله -على عكس لوكاش- ينظر إلى ما يقوم به كتاب الحداثة بتثمين عال لأنهم يفتِّتون الواقع الحديث ويمزِّقون صورته ويكشفونه للوعي. فالنزعة الفردية المغتربة أو السكونية والشكل الفارغ التي رآها لوكاش في أدب بروست وبيكيت وجويس وأمثالهم ليست بلا قيمة لأنها تصوِّر بصدق خواء الثقافة الحديثة وتؤشِّر على اغتراب الإنسان. إنها تتألَّف بهذه الكيفية المفارقة لاكتمال الحبكة ومعقوليتها ووحدتها لتمتلك ما يباعد بينها وبين الواقع فتتمكن من رؤيته ومن الدلالة على نفيها له واستبعادها إياه.

ولم يكن الانعكاس لدى ولتر بنيامين، الذي كان صديقاً حميماً لبريخت، وصفاً مطابقاً للشكل الأدبي. فقد انحرف بنيامين برؤيته عما انبنى عليه مفهوم الانعكاس من الحسبان للعلاقة بين موضع العمل الأدبي وعلاقات الإنتاج في عصره، أي العلاقات الاجتماعية الاقتصادية، واستبدل بذلك منظوراً مغايراً يقف على وظيفة العمل الأدبي داخل علاقات الإنتاج الأدبي في عصره. إن الأدب -من هذا المنظور- شكل من أشكال الإنتاج الاجتماعي، أي سلعة يتم إنتاجها وبيعها، لكن هذه الصفة لا تقف خارج الأدب مستقلة عن إحداث أي أثر على تحديد الشكل الأدبي، بل هي حقيقة تحدِّد طبيعة الفن نفسه إلى حد بعيد. ولذلك فإن بنيامين ينظر إلى عمل الأديب على تقبُّل قوى الإنتاج الفني المتاحة أو تطويرها وتثويرها لخلق علاقات اجتماعية جديدة بينه وبين المتلقي، بحيث تصبح ملكية الفن عامة ومتاحة للجميع.

وقد وصف بنيامين في مقاله «العمل الفني في عصر الاستنساخ الصناعي» (1933م) السينما والراديو والصحف والتصوير الفوتوغرافي والتسجيلات الصوتية بأنها توسع ملكية قوى الفن، وترتَّب على ذلك -فيما رأى- تطوير في أشكال الفن، فالصحيفة -مثلاً- تجمع الشاعر والكاتب، والباحث والمعلِّق، وتلغي الانفصال بين الأجناس الأدبية. وهكذا هو الحال مع التقنيات الأخرى التي غيَّرت من أشكال الإدراك والعلاقات التقليدية للإنتاج الفني، فلم يعد الاهتمام مقصوراً على موضوع العمل الأدبي فحسب، بل امتد ليشمل وسائل إنتاجه أيضاً. إن شيوع الفن وسهولة استنساخه وتوزيعه بالوسائل الحديثة قضى على ما يسمى بـ(الفن الراقي) وتركت وسائل الإنتاج هذه، أثَرَها على شكل الأدب، بحيث لم يعد يتيح لنا التأمل الهادئ بل يعرِّضنا إلى صدمات متقطعة ويجرد الموضوعات من هالتها. والمعنى الذي نستخلصه من ذلك هو أن الأدب لا يتحدَّد بانعكاس علاقات البناء الاجتماعي الاقتصادي فيه فقط -عند بنيامين- بل بعلاقات إنتاجه وتداوله أيضاً.

وبقدر ما يدلِّل إرنست فيشر في كتابه «ضرورة الفن» (1959م) على أن الأشكال الفنية ليست مجرد أشكال نابعة من الوعي الفردي وإنما هي تعبير عن نظرة إلى العالم يحدِّدها المجتمع، وأن أشكال الخبرة الفردية لا تتجمع بصورة مستقلة عن التطورات الاجتماعية، فإنه يلتفت إلى نقطة جوهرية وهي أن «الظروف الاجتماعية قلَّما تجد انعكاساً مباشراً لها في الفنون، والأشكال الجديدة والأفكار الفنية الجديدة لا تتطابق مع المضمون الاجتماعي الجديد تطابقاً كاملاً». ويرى أنه لا يمكن أن يكون هدف الفن وغايته أن يعيد تمثيل الطبيعة، ولا يمكن أن يكون معناه مجرد التشابه مع الطبيعة، وعندما يعالج الرسام ذو النزعة الطبيعية موضوع سحب وعاصفة تتجمع فوق مدينة، بحيث لا تعني لوحته شيئاً أكثر من عاصفة (طبيعية) واقعية فوق مدينة (طبيعية) واقعية، فإن المُشَاهد لا يملك إزاءها أكثر من أن يعترف بالدقة التي سجَّل بها الفنان العاصفة. لكن ذلك هو ما ينزل بمضمون اللوحة ومعناها -في رأي فيشر- إلى الحد الأدنى، أي إلى درجة التشابه التي حقَّقَتْها. إن العمل هكذا يصبح مجرد نسخة من الواقع، منظوراً إليه من الخارج، نسخة خالية من المضمون أو الفكر ودون أن تصبح في ذاتها واقعاً جديداً وهامّاً.

هذا التفكير لدى فيشر خارج ربقة التشابه مع الواقع أو الانعكاس له، هو ما قاده إلى تصوُّر علاقة أخرى بين الأدب والواقع، وهي علاقة التحويل التي يؤول إليها الواقع في الأدب. «فلا بد للفنان، حتى يكون فناناً، أن يملك التجربة، ويتحكَّم فيها، ويحوِّلها إلى ذكرى، ثم يحوِّل الذكرى إلى تعبير، أو يحوِّل المادة إلى شكل... ينبغي أن يفهم القواعد والأشكال والخدع والأساليب التي يمكن بها ترويض الطبيعة المتمردة وإخضاعها لسلطان الفن». ولنقل إن من تعريف الفن أنه وسيلة لاندماج الفرد في الواقع والتقائه بالعالم ورغبته في التمرس بالتجارب التي لم يمر بها -وهذا ما يسهب فيشر في تأكيده وإدارة كتابه عليه فهو «ضرورة الفن»- هل يصب ذلك -لدى فيشر- في معنى الاتصال بين الفن والواقع بشكل مباشر، فنعود من جديد إلى تصور علاقة التشابه والاستنساخ للواقع، ونزعم أن انفعالنا هو نتيجة التطابق والاندماج بين ذاتنا المتلقية والذات المشخَّصَة والممثَّلَة في العمل؟! إن فيشر يميز بين ما يصفه بـ»الاستسلام الديونيسي» (نسبة إلى ديونيس الذي يمثل الغريزة والجماعة والطبيعة الخام) والعنصر «الأبولوني» (نسبة إلى أبولو الذي يمثل العقل والفرد والحضارة) مقرِّراً أن الفن يحوي نقيض الديونيسي وهو العنصر الأبولوني عنصر الرضا والمتعة الذي لا ينشأ من ارتباط المتفرج بما يرى بل من انفصاله عما يرى، من إيجاد مسافة بينهما، فبذلك يتغلب المتفرج (وليس المتفرج هنا سوى خصوص في موضع عموم المتلقي) على التأثير المباشر للواقع، ويعيد تصويره على هواه، فيجد في الفن -عن هذا الطريق- تلك الحرية السعيدة التي لا يجدها في حياته اليومية بقيودها ومتاعبها.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة