Culture Magazine Thursday  14/03/2013 G Issue 400
فضاءات
الخميس 2 ,جمادى الاولى 1434   العدد  400
 
إلياس لحّود في الرياض.. أخيراً!
فيصل أكرم

 

وإن كان يكتبُ شعراً عربياً متفوّقاً منذ أكثر من خمسين عاماً، وإن كان نتاجُ تجربته العميقة متفرِّعاً ستة عشر ديواناً، أولها (على دروب الخريف) الصادر عام 1962، وآخرها (قصائد باريس) الصادر عام 2010، وقد تم جمعها أخيراً في (الأعمال الشعرية)، صدرت عن دار الفارابي ببيروت في أربعة مجلدات من الحجم الكبير.. فما الغريب في ذلك؟

ما كنتُ - ولا أزال - أراه غريباً، ويستحق التوقف عنده، هو أننا في المملكة العربية السعودية لدينا مكتبات كثيرة جداً، تجارية وعامة، ونجد في رفوفها كتباً لجميع الشعراء العرب، حتى المغمورون في بلدانهم نجد لكتبهم حضوراً في مكتباتنا، غير أن كتاباً واحداً من الكتب الشعرية لإلياس لحود لم أجده قط في أي مكتبة من مكتباتنا المحلية الكثيرة.. وقد سألتُ عن أسباب ذلك وناقشتها مرات عديدة - بحكم الصداقة المستمرة بيني وبينه منذ زمن - فلم أجد أي مبرر لخلو مكتباتنا من دواوين هذا الشاعر العربي اللبناني الكبير، فلا هو من الممنوعين لدينا، ولا دور النشر (الكبرى في الغالب) التي تتبنى إصدار دواوينه. وقد خلصتُ إلى أن السبب المؤدي لهذا الغياب يكمن في أحد احتمالين، لا أجد لهما ثالثاً: إمّا أنّ لا حظَّ لدواوينه في مكتباتنا، أو أنَّ لا حظَّ لمكتباتنا من دواوينه!

من أجل ذلك كانت فرحتي استثنائية حين شاهدتُ مجلدات (أعماله الشعرية) معروضة ضمن جناح (دار الفارابي) المشاركة في معرض الرياض الدولي للكتاب، المقام هذه الأيام، وقد نويتُ في البداية التخلي عن النسخة التي تكرّم بإرسالها لي - كإهداء - سعادة المدير العام للدار الأستاذ الصديق جوزف بو عقل؛ لأنني رأيتُ أن غيري من مرتادي المعرض قد يكون أولى بها، فدواوين إلياس لحود موجودة عندي في طبعاتها الأولى، ولكنني عدتُ فأخذتُ نسختي من المجلدات الأربعة حتى أستطيع أن أتكلم عنها، شاكراً للدار ومديرها وجميع منسوبيها هذا الجهد والسخاء بإخلاص في إظهار هذه الأعمال الضخمة التي طالما حرّضتُ الشاعر والدار على إنجازها، وبشّرتُ بها في مقالاتٍ سابقة، غير أنني لم أكن أتوقع أن تأتي بهذه الصورة من الاكتمال والإتقان..

* المجلد الأول من هذه الأعمال ضمّ أربعة من دواوين الشاعر (على دروب الخريف، والسدّ بنيناه، فكاهيات بلباس الميدان، ركاميات الصديق توما وأغاني زهران)، وقد افتتح المجلد بمقالة للشاعر واللغوي الراحل فؤاد جرداق (1915 - 1965) جاء فيها: (وإنني أتنبأ للحبيب إلياس بمستقبل باهر لا يتهيأ إلاّ لمن تذوّق الفن والجمال في عالم الشعر والأدب، وأخلصت له الطبيعة فسفرت عن مفاتنها الكامنة وروائعها الخبيئة..). ولا شكّ أن توثيق الشاعر لهذه الكلمة المكتوبة عن شعره عام 1962 كتقديم لديوانه (ككل) يأتي من باب الوفاء لأستاذه فؤاد جرداق، الذي صدق في نبوءته..

* المجلد الثاني حوى أربعة دواوين أيضاً (المشاهد، شمس لبقية السهرة، الإناء والراهبة، مراثي بازوليني). ومراثي بازوليني ملحمة من الأناشيد كتبها الشاعر في رثاء أحد تلامذته الذين آمنوا بشعره في النضال، فراحوا شهداء الحرب الأهلية اللبنانية. وقد كتبتُ عن هذا الديوان مقالة منذ سنوات، كما استحضرتُ بعض مقاطعه في مقالة أخرى حين أوشك شبح الحروب الأهلية أن يختطف أنفاساً أخرى من لبنان وغيره. يقولُ النشيدُ:

(تلثَّمْ واحترمْ موتَ المدينةِ

رنِّم اللحنَ الذي رنَّمْتَه في الصفِّ

قاصَصَكَ المعلّمُ: قفْ، وراجعْ فرضكَ المنسوخَ

حسِّن خطَّكَ المرتابَ

واسندْ بأعمدة الرصيف جبينَ رأسكَ.. لا

ألفان من مُقل المعابر يتكونَ عليك،

سِرْ واعبرْ إليك..).

* المجلد الثالث، مثل سابقيه في الكمّ، حيث احتوى على دواوين شعرية أربعة: (سيناريو الأرجوان، أيقونات توت العلّيق، قصائد باريس، حديقة روزي)، وهي تمثل الذروة في تجربة الشاعر التي جعلت له بصمة لها قيمتها المتفردة على مستوى الشعر العربي الحديث.. وسأكتفي بهذا المجلد ثالثاً، ولن أتكلم عن (المجلد الرابع)، فالرابع يحتوي على أربعة دواوين أيضاً، ولكنها (شعر بالمحكية اللبنانية)، وأنا - بالصدق كله - قد لا أحسن قراءة الحروف المكتوبة باللهجات المحكية، مع أن لها جمهورها طبعاً..

وبعد.. فتجدر الإشارة إلى أن الشاعر قد وثّق في مجلدات أعماله الشعرية مقتطفات مما كتب حول كل ديوان من دواوينه، فهناك كلمات لأسماء كثيرة من كبار الشعراء والمثقفين والأدباء في العالم العربي، منهم: د. عبد العزيز المقالح، مصطفى الكيلاني، محمد علي شمس الدين، سامي أدهم، نبيل أيوب، لامع الحر، طلال سلمان، سعيد فرحات، حمّو بوشخار، يوسف أبو لوز، وغيرهم كثير.. غير أن من السعودية لم أجد غيري! (وهذا ما يؤكّد مشروعية استغرابي الذي أبديته في مطلع المقالة). ولعل من أجمل تلك الكلمات ما قاله المفكر العربي المعروف مطاع صفدي، في إحدى المجلات العربية، قبل نحو أربعين عاماً: (هذا إلياس لحود، من يعرفه حقاً؟ من يعرف ماذا فعل في زحمة الشعراء، ماذا قال وسطّر في بضع أوراق؟ أول شاعر للمأساة المنقلبة ملهاة للنكتة السوداء. لطاحون الضحك والرصاص والتراب والقمح وزهور البرية والصبّار كله. يبدع لغة شعرية حقيقية كمجرم يقول صدقاً له دوي الرصاص كضحكة الشيطان فوق ركام المعقول.. من قرأ هذا الساحر العربيد بالصور الواخزة اللاهثة الشبقة العاصفة في آن؟ إنه إلياس لحود، أول شاعر عربي يعيد إلى قاموس اللغة والأحداث نماذج المطرودين من مخلوقات العالم السفلي..)!

أقولُ ختاماً: أتمنى أن أشاهد نسخاً من مجلدات هذه (الأعمال الشعرية) في مكتباتنا المحلية، الرسمية والمؤسساتية والتجارية والخاصة؛ فهي تشكّل تجربة كبرى من التجارب الحافلة بالتطوير والتأثير في كينونة الشعر العربي المعاصر..

ffnff69@hotmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة