Culture Magazine Thursday  14/03/2013 G Issue 400
فضاءات
الخميس 2 ,جمادى الاولى 1434   العدد  400
 
انطباعات أدبية
في المصعد؟!
د. حمد الزيد

 

هناك أشياء كثيرة تحدث وحدثت في هذا الصندوق الصاعد النازل في البنايات كالحظ في الحياة!

وخلال إجازتي الصيفية الطويلة كل عام، في البلد الذي أحبه لبنان، حدث في أحد الأيام في مصعد البناية التي أسكن فيها في الدور الخامس بإحدى البلدات اللبنانية الجميلة ما لم يكن في الحسبان. فلم يكن هناك جريمة! أو حالة رومنسية! ولكنها مشكلة صغيرة، كشفت عن أخطاء كثيرة لحكومة فاشلة لشعب ناجح في هذا البلد الصغير المتحضر أكثر من غيره في المحيط العربي، منذ العصر الفينيقي وحتى اليوم، الشعب الذي أنجب (جبران) وآل معلوف، ونعيمة وأبو ماضي وشعراء المهجر وسعيد عقل، والعمالقة في الفكر والثقافة والأدب في العصر الحديث، وهم بالمئات.

في ذلك اليوم من (آب) أغسطس، كنت قد عدت لتوي من البقالة المجاورة، وبعد قليل أفادتني زوجتي بوجود غرض ناقص في المقاضي التي اشتريتها، فاتصلت بالذي يوصل الطلبات، وهو رجل في منتصف العمر من مصر يحضر الأشياء الخفيفة بدراجته النارية القديمة، فهو كالإسعاف لعائلات (فتقا) أو الزوار الكسالى مثلي!

وبعد أن حادثته قال لي بأنه قادم لنا في الطريق، ووجد باب العمارة مفتوحاً وصعد (الأسانسير) كما يسمى في فرنسا ومصر! أو الليفت في إنجلترا! وكلمني وهو يصرخ ويستنجد! بعد أن علق بين الدورين الثاني والثالث وهرعت اليه.. وبعد أن هدأت روعه قليلاً، وطلبت منه الصبر لأن الكهرباء مقطوعة وهي نوعان: عمومية من الشبكة وهذه تنقطع معظم الوقت في كل لبنان منذ سنين الحرب الطائفية المؤسفة، وأخرى خصوصية عن طريق متعهد يملك مولد كهرباء، ويأخذ من السكان كل شهر مبلغاً يفوق المئة دولار أميركي، أي نصف الأجر لعامل لبناني في الشهر؟!

وبدأت التحرك بسرعة فطرقت أبواب أربعة من الجيران، ولم أجدهم، ونزلت خمسة طوابق، فهب معي لحسن الحظ، أحد الجيران، وتبعه آخر، واللبنانيون مشهورون بالنجدة، وقت (الزنقة)! وأجريت اتصالاً بالمسؤول عن تشغيل الموتور الخاص لحل المشكلة فقال لي إنه في (بشري) وهو مكان بعيد جداً عن ضيعتنا، ولم يستطع جاري (جورج) في البداية أن يجعل المصعد ينزل يدوياً لأنه لم يكن معه مفتاح له، والعدة التي عندي للسيارة، لم نجد فيها أي مفتاح يصلح، والمصري المسكين يتصبّر داخل المصعد لأكثر من نصف ساعة، وأنا وجارتنا (الأرمنية) وابنتيها نحاول رفع معنوياته، وهو معلق بين الطابقين ! وتذكرت أن أحد رسامي لبنان التشكيليين في القرن الماضي، قد بترت ساقه، لانه تعلق في مصعد، وحاول كسر زجاج الباب المستطيل لينفتح أو يدخل عليه الهواء، وقلت لجارنا لماذا لا نستنجد بالدرك (الشرطة) أو الدفاع المدني، كما في السعودية مثلاً، فضحك وقال لي: يا خيي إنت بلبنان! ما راح يجيك أحد! ولا بكرا! فحزنت على مصير هذا البلد الذي لم يكفه الفتن من حوله، وأنانية وفشل مسؤوليه، وانهيار اقتصاده، وتخلخل أمنه، مما أدى بشبابه الناجح للهجرة في آفاق الدنيا الواسعة.

ولم تعد الكهرباء لسوء الحظ! فجاء جار آخر واستطاع مع الأول بعد أن صعدا إلى سطح الطابق السادس، أن يحركا المصعد يدوياً للنزول البطيء حتى الدور الأرضي !

ومرّا بي ويداهما ملطختان بالسخام الأسود، فشكرتهما. وبعد قليل صعد إلي (رضا) المصري وقد امتقع لونه وبدا عليه التعب والخوف، فأعطيته مبلغاً صغيراً من الليرات، أفرحته وهي أكثر من البقشيش الذي أدفعه له عادة بعشر مرات؟!

وبعد أن ذهب فكرت في أسباب الرزق التي يسوقها الخالق للمخلوقين، فلولا هذه الورطة الصغيرة لما جاءه مثل هذا المبلغ، ولو كان في هذه البلاد الجميلة حكومة غير فاشلة لما صار .. ما صار.!


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة