Culture Magazine Saturday  14/09/2013 G Issue 411
عدد خاص
السبت 8 ,ذو القعدة 1434   العدد  411
 
أعـوام الحـيرة.. .. أعوام الضياع

 

في ربيع عام 1951م، أي منذ ما يقرب من الستين عاما، اجتمعنا، نحن القلة القليلة من الجامعيين، في فندق (بنك مصر)، في مكة المكرمة. لم يكن عددنا ليتجاوز الخمسة عشر جامعيا. كان الواحد منا يتحدث مع نفسه، ومع الآخرين، حديث الزهو والخيلاء كأن على رؤوسنا تيجان الفاتحين!.

كان لنا عذر في ما كنا عليه، فنحن طلائع الجيل الأول من الخريجين، والدوائر الحكومية تتنافس، للظفر بنا، مستعينة بكل ما أتاح لها نظام الموظفين من مغريات.

دعا لذلك الاجتماع زميل لنا هو الأستاذ أحمد صلاح جمجوم (كان خريج كلية التجارة وأصبح في ما بعد وزيرا للتجارة). كان الزميل الجمجوم ذا حيوية يغبط عليها. كما كان ذا حس وطني وصاحب مبادرات اجتماعية ذكية. تحدث إلينا الزميل في ذلك الاجتماع، وقال ما معناه أن الله قد أكرمنا باستكمال دراستنا الجامعية، وأن هناك جيلا من المواطنين لم يحظ بما حظينا به من تميز واقتدار. وأن هذا الجيل يتطلع لأن يستعيض عما فاته من تحصيل علمي منهجي بتثقيف نفسه باكتساب الجديد والمزيد من المعلومات. واقترح إنشاء ما اتفقنا على تسميته «مدرسة الثقافة الشعبية». وهي مقر يتردد عليه الراغبون في الحضور، حيث يقوم بعض الزملاء من الجامعيين بالمحاضرة في التاريخ، واللغة الإنجليزية، والعمليات البنكية، والأدب العربي، كل في اختصاصه.

كان (لمدرسة الثقافة الشعبية) فرعان. فرع في دار تقليدية واسعة تقع في واجهة المكان الذي أقيم عليه فندق البحر الأحمر في جدة. وآخر في مكة المكرمة. ولما كان الحديث في القانون، وهو مجال تخصصي، أمرا غير وارد، فقد اخترت الحديث في الأدب العربي. كنت أعمد، في لقائي مع مرتادي المدرسة، إلى اختيار بعض ما هو شيق من نثر أو شعر، وأشرع في شرحه لهم، أشركهم في الحديث فيه. نأتي على الجانب اللغوي منه، ثم نعكف على تحليل النص أو القصيدة والوقوف عند مضامينها الاجتماعية أو السياسية. وصادف أن اخترت يوما قصيدة (نهج البردة) لأمير الشعراء أحمد شوقي ومطلعها يقول:

ريم على القاع بين البان والعَلَمَ أحَلّ سفك دمي في الأشهر الحُرُمِ

كانت السيدة أم كلثوم قد انتهت لتوها من إثراء الغناء العربي بهذه الرائعة من روائع الشاعر الكبير، ليرددها العرب في كل أرجاء الوطن العربي. القصيدة غنية بالمعاني الإنسانية الراقية، والصور التعبيرية المتألقة، والمواقف الإنسانية في سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، المثيرة للتأمل، الداعية لمراجعة النفس، والمستوقفة لأصحاب الفكر في ما يفكرون:

أسرى بك الله ليلاً، إذ ملائِكُهُ والرسْلُ في المسجد الأقصى على قدَمِ

حتى بلغتَ سماءً لا يُطار لها، على جناح، ولا يُسْرى على قدَمِ

وقيل: كل نبي عند رتبته، ويا محمدُ هذا العرُش فاسْتلِمِ

هذه الأبيات ليست إلا صورة واحدة من روائع الصور التي جاءت القصيدة عليها في مائة وتسعين بيتا من الشعر!.

وتوالى الحديث في هذه الرائعة والإخوة المشاركون في اللقاء يسألون ويستزيدون من السؤال، كأنهم قد اكتشفوا في كل بيت من أبياتها عالما من الروحانية يأخذ بالعقل والفؤاد. وفي ظني أنهم كانوا مأخوذين بالقصيدة، غناء وطربا، من دون فهم كامل لبعض معانيها، فجاء حديثنا فيها وشرح أبياتها ليضاعف من انبهارهم بها وإقبالهم عليها.

على أن الأمر لم يقف عند الأبيات التي غنتها أم كلثوم، بل أتينا على بيتين آخرين في القصيدة، كاد الحديث فيهما أن يدخلني في عاصفة لا تبقى ولا تذر! والبيتان همـا:

يا نفس، دنياك تُخفي كلّ مُبْكيَةٍ، وإن بدا لك منها حُسْنُ مُبْتسَمِ

طوراً تمدك في نعمى وعافية، وتارة في قرار البؤس والوَصَمِ

جاء شرحي لهذين البيتين مزيجا من الفظاظة في القول، والاستهانة بما حملته من معان. قلت لهم إن في هذين البيتين دعوة إلى الاستسلام والقعود عن العمل. دعوة إلى الاستكانة، إلى الوهم بأن الدنيا هي التي تبكينا وتسعدنا وأنها كفيلة بكل شيء، وأن لا حساب لجهود الإنسان في صنع حاضره ومستقبله. وأن في هذا المعنى نقضا لكل قوانين الحياة.

فالحياة سبب ونتيجة.

للكون قوانينه. وللحياة الإنسانية قوانينها أيضا.

الماء يُنبت الزرع، والجفاف يقضي عليه.

الأرض تدور حول الشمس ليحل الليل في نصفها ويطلع النهار في النصف الآخر.

العطش يقتل. والجوع يميت!.

وللحياة قوانينها أيضا: الجهل يورث الفشل في الحياة، يؤدي إلى الفقر، والفقر يؤدي إلى الحاجة. والحاجة تدفع بالإنسان للاستهانة بالقانون وارتكاب المخالفات، ومساءلته وتطبيق العقوبة عليه.

والعلم يُعِد الإنسان لحياة سعيدة. فالنجاح إنجاز إنساني، كما أن الفشل عجز إنساني.

نعم إن قانون الكون، وقانون الحياة يقومان على حقيقة: السبب والنتيجة. والحديث عن دنيا تُبكي وتُفرح ليس إلا ذريعة للتخاذل، وحجة للكسل، وتخديرا للإرادة، وخروجا على قانون الحياة. ومضيت في التأكيد على أن الإنسان هو الذي يصنع حياته، بسعدها وشقائها، مناقضا، إلى حد التسفيه، مقولة أن الدنيا -وأي دنيا؟- هي التي تسعده أو تشقيه.

كان طلبتي يستمعون إليّ في ذهول! بعيون متسعة، وفم مفتوح، استماع المفجوع بقول يكاد يزلزل كيانه! وهالهم في الأمر أن لا يجيء شرحي لتلك الأبيات على شيء من الحذر، بل جاء شرحا مفرطا في الثقة في النفس، منكرا على الشاعر الكبير صدق الرؤية في ما أتي عليه، مناقضا له إلى حد الاستخفاف!.

وكان أشد المستنكرين لقولي مشارك اسمه عبد الإله جدع، في الأربعين من عمره. فقد تحول وجهه لفوهة بركان غاضب، يحمر، ويصفر، وارتجفت عضلات فكيه حتى ليكاد ينقض عليّ ليمسك بي ويمنعني من الاستمرار في هذا القول العابث السقيم! وخاطبني بقوله: إن ما أتيت عليه يا أستاذ من قول هو كلام كبير! إنه يقترب من حدود الكفر، إن لم يكن الكفر بعينه! وبدأ يستشهد بما تعيه ذاكرته من آيات أو حديث وهو يرتجف غضبا واستنكارا، ويردد أن الله هو الذي يحدد مسيرة الإنسان منذ مولده حتى مماته، وأن نجاحه وفشله مرهونان بإرادة الله. ألم تقرأ في كتاب الله قوله الكريم: (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله) - وقوله تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا وعلى الله فليتوكّل المؤمنون). وأخذ يلحق الآية بالآية، والحديث بالحديث، وأنا صامت، مأخوذا بهول هذه المفاجأة، واقتحامي لأمر لم أفطن للمحظور فيه!.

كان ممكنا، في شرحي لتلك البيتين، أن أكون رفيقا بهم وأن أختار خطا وسطا يرى الحياة مزيجا من الاجتهاد والقدر المكتوب، وأن النجاح ليس هبة من السماء فحسب، بل إنه، أيضا، أخذ بما جاء في كتاب الله من الحث على السعي والعمل الصالح. إلا إن مثل هذا الاعتدال كان قد تراجع مهزوما في وجه ما استحوذ علينا من مواقف التطرف إلى حد الانفلات، نحن جيل النكبة في فلسطين جيل عام 1948.

لقد هدتنا الهزيمة العربية في فلسطين، وضغضغت كل ما استقر فينا من موروث الزهو بتاريخنا، وبأننا أمة انفردت بما لا تقوى عليه أمم أخرى من الشجاعة، والتضحية، والفداء! وأفقنا على رغبة عارمة في أن نعيد النظر في كل شيء، وأن نتساءل عن كل شيء، وأن لا محظور في ما قد نأتي عليه من حديث في السياسة، والدين، والأخلاق! نريد أن نعرف لماذا هُزمَتْ الجيوش العربية النظامية في وجه ما أسميناه (بالعصابات)؟ فلحقت بنا مذلة أتت على عزيمتنا، وانحدرت بنا إلى هوة من العار والانهيار!.

وتحولت أروقة كلية الحقوق في جامعة فؤاد الأول لمراجل لا تهدأ من الجدل، الحر، الجريء، الغاضب، الملتهب. نهدأ قليلا كي نعود إلى حوار أكثر التهابا! لم نعد خير أمة أخرجت للناس. نحن أمة غاب عن حياتها العلم. هزمنا لأن المقاتل الإسرائيلي كان أفضل تدريبا من المقاتل العربي، وأحسن تسليحا، وأكثر عافية، وأصلب عقيدة وهو يقاتل قتال الموت أو الحياة.. هزمنا لأننا أمة تستعين بالأحجبة، وزيارة الأضرحة، والتعاويذ. وهم شعب يستعين بالبحوث والمختبرات. ليس في حياتهم شيء اسمه الحظ والقدر. ونحن نعزو كل أخطائنا، وحماقاتنا للحظ والقدر!.

ويمضي بنا التساؤل، والغضب، والتمرد على كل شيء. ولا نهدأ إلا حين نجمع على أن العلم هو الذي يصنع الإنسان، يحرره من (القدرية)، ويفجر فيه القدرة على فهم أفضل للحياة. علينا أن نوقف قرع الطبول، ونسكت عزف المزامير، ونفيق من الوهم الذي عشنا فيه، وعشنا عليه بأننا خير أمة أُخرجت للناس!.

هذا ما كان عليه حالنا سنة 1948 والأعوام التي أعقبتها. مشاعر محزونة، وفكر غاضب متمرد. حملنا تلك المشاعر وذلك الفكر لأعوام عديدة أسميتُها أعوام الحيرة، وأعوام الضياع. وبهذا الفكر المنفلت حاضرتُ، وأنا في أواسط العشرينات من عمري، أناسا طيبين من بلدي.

ولا أملك، وأنا أعكف على تسجيل بعض الخواطر والذكريات، إلا أن أسترجع هذا الحدث، وما أحاط به من استنكار مفجوع للشرح الذي أتيت به وشددت عليه، كأني قد اقتحمت عليهم، بحماقة القول، نعمة اليقين الذي يملأ قلوبهم. وهالهم، بل أفزعهم، أن يخاطَبوا مخاطبة المستهين بما اطمأنت إليه نفوسهم، وتحصنت به، ورأت فيه درعا يقيها شرور الحياة.

هذا ما كنتُ عليه، وما كان أبناء جيلي عليه.

لقد كانت، حقا، أعواما من الحيرة، وأعواما من الضياع!


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة