Culture Magazine Saturday  14/09/2013 G Issue 411
عدد خاص
السبت 8 ,ذو القعدة 1434   العدد  411
 
الوزير الثوري

 

لم يكن في مظهرنا ما يثير الانتباه ونحن ندخل قاعة الطعام في أحد الفنادق في عاصمة عربية، إلا لباسنا الوطني الذي كنا نرتديه أنا وزملائي أعضاء الوفد العربي السعودي.

كان ذلك غداة انعقاد مؤتمر وزراء الإعلام العرب، في أحد اجتماعاته الماضية. وكان يجلس إلى إحدى الموائد القريبة منا رجل توحي قسمات وجهه بأنه عربي.. وابن عربي.

لكن نظراته لم تكن عربية...

فما كاد يستقر بنا المقام حتى أخذ يلاحقنا بعيون فيها نظرات من مشاعر السخرية والازدراء.. كانت نظراته كفيلة بأن تدفع بالحليم إلى أقصى آماد الاستفزاز.. ولكن الله أنزل في قلوبنا السكينة وتجاهلنا الأمر بكل ما قدر لنا أن نملكه من ضبط للنفس..

وأحسسنا، ساعتها، أن الذي أثار هذا الرجل الغريب هو لباسنا الوطني..

وذهبنا في اليوم التالي لحضور الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، وإذا بصاحبنا وزير إعلام عربي، لبلد عربي، وضع نفسه في مكان الصدارة من القافلة العربية الثائرة.. وكانت نظراته هذه المرة أقل جرأة ووقاحة. وتصافحنا. ومد يده بكبرياء دفعت إلى وجهي بابتسامة مليئة بالسخرية والأسى.

وشرع مجلس وزراء الإعلام في أعماله واستطاع وفدنا أن يأخذ بزمام المبادرة وأن يقيم الدليل لذلك الوزير الثوري المتعالي بأن العباءة والعقال ليسا ـ كما يصر ـ رمزا للتخلف والجمود. ونسي أن العقال كان تاجا على رؤوس من صنعوا المفاخر لتاريخنا العربي والإسلامي.

وفي أحد اللقاءات العابرة سألني ذلك الوزير، وعلى مسمع من وزير عربي ثالث، لا يزال في منصب رئيسي هام، سألني عن بلادي سؤالا يمثل صورة محزنة مخيفة من صور الجهل السياسي. سألني وهو الوزير المنوط به أمر التوجيه والإعلام السياسي في بلاده، سألني عن بلدي في أمر بات شأنه معروفا لكل من يعنى بمتابعة الأحداث في العالم العربي متابعة عادية مألوفة.

ومعذرة للقارئ في حفاظنا على سرية الواقعة، فإن الهدف من روايتها هو الاستعانة بالمعنى الذي تمثله هذه القصة وليس التشهير بأبطالها..

كان سؤاله مثيرا لدهشتي فلم أعطه الجواب. ولبثت لحظة أنظر إليه وفي جوانحي ثورة المظلوم.

قال لي: هل أغضبك سؤالي؟ قلت له: كلا.. إن سؤالك لم يغضبني ولكنه أحزنني.. قال لماذا؟ قلت: لو أن سؤالك هذا جاءني من وزير إعلام كمبوديا أو وزير إعلام تشيلي، أو وزير إعلام ساحل العاج، لما رأيت في الأمر عجبا.. أما أن يأتيني هذا السؤال من وزير إعلام عربي وضع نفسه في مراتب القادة العارفين، يصدر أحكامه السياسية.. ويضرب ويطرح.. ويصنف الدول العربية إلى فئة تقدمية متحررة حق لها أن تعيش، وفئة أخرى رجعية متخلفة ليست جديرة بالحياة.. أن يأتيني هذا السؤال من ذلك الوزير العربي.. فتلك هي الكارثة..!

ومضيت أقول: يا سيدي إن المصيبة ليست في أنكم تجهلون الشيء الكثير أو، بالأحرى لا تعرفون شيئا عنا، إن المصيبة هي في أنكم تحددون علاقتكم السياسية مع بلادنا وأنتم في متاهات لا حدود لها من الجهل السياسي وسوء التقدير.. إنك تجلس في مكتبك وتحكم على بلدي بالتخلف والجمود وأنت لا تعرف عنه شيئا.. لا عن تكوينه الاجتماعي، ولا عن حاضره، ولا عن ماضيه، ولا عن منجزاته.. ولا عن واقعه الحضاري، ولا عن مخاوفه أو حتى أمانيه.. لذلك فنحن لا نعبأ بأحكامكم لأنها احكام لا تستند إلى العلم والموضوعية واليقين. وأعترف أنني كنت منفعلا وأنا أتحدث إليه، وأعترف أيضا أنه كان حليما صابرا وهو يطالع معاني الصدق والألم فيما أقول. ولا تنتهي القصة عند هذا الحد. فقد أدرك الوزير أننا بهذا التحديد نضع يدنا على جانب مهم من الجوانب الأساسية في بناء العلاقات العربية. واعترف، ذلك الوزير الثوري، بأن أكبر مصادر الخلافات العربية هو قصور كثير من المسؤولين العرب عن معرفة البلاد العربية الأخرى معرفة دقيقة تنتهي بالحاكم منهم إلى الرأي السليم.

ومع الأيام القليلة التي شهدت اجتماع وزراء الإعلام ولقاءاتهم المستمرة أضحى صاحبنا أصدق مشاعر وأكثر ميلا إلينا، وطالعني، في ساعة من ساعات الحديث الموضوعي الهادئ، بمفاجأة مذهلة حين أقسم لي أن وسائل الإعلام في بلده كانت تتسابق مع وسائل الإعلام في بلد عربي آخر على التعريض بالمملكة والنيل منها هي وبلد عربي آخر حقق استقلاله بعطاء سخي من الدماء. وحين سألته عن سبب هذا التسابق الغريب، قال لي إننا نعتقد أن التسابق على التعريض بكم والنيل منكم يرفعنا في نظر الجماهير العربية إلى مكان الصدارة في طليعة الركب العربي الثائر المتحرر.. فأنتم رجعيون.. والحرب على الرجعية عندنا تأتي في قمة القمم من واجبات التحرر.

لم أستطع أن أدع آثار هذه القصة العجيبة تذوب في آثار الأحداث الأخرى المتلاحقة من دون أن أجد نفسي مدعوا -وبإلحاح- إلى طرح السؤالين التاليين:

أولا: هل صحيح أن ذلك الوزير الثوري يجهل بلادي الى هذا الحد المؤسف، أم أنه يعلم هو ورفاق ركبه التقدمي الثائر حقيقة بلادي ويتجاهلون الحقيقة عمدا من أجل مخطط سياسي يبتغون تنفيذه؟

القناعة التي تملأ ضميري هي أن ذلك الوزير العربي وأمثاله من رفاقه الثوريين يعيشون فعلا -كما قلت في مقدمة هذه الكلمة- في متاهات من الجهل السياسي وسوء التقدير.. والسبب هو أنهم يقررون الأحكام سلفا دون بحث أو استقصاء، ويعتقدون أن أي نظام من أنظمة الحكم لا يتلاءم مع خطهم أو هواهم هو نظام رجعي مدان، لا يستحق منهم فضيلة البحث والاستقصاء.

وسبب آخر هو أنه، وإن توافرت -فرضا- عندهم الرغبة في متابعة الأحداث متابعة موضوعية سعيا وراء تكوين الحكم السليم، فإن هموم الصراع السياسي الذي يعيشون فيه مع بعضهم لم تبق لهم شيئا من نعمة البحث والتفكير.. ولذلك فهم غالباً ما يعتمدون على تقارير سطحية العلم والفهم وحسن التقدير، يبعث بها ممثل دبلوماسي لا يعرف عن البلد الذي يعمل فيه إلا المدينة التي يعيش فيها ويوجد فيها مكتبه ومسكنه وسيارته.

ثانياً: هل صحيح أن التهجم بوسائل الإعلام علينا وعلى غيرنا يضعهم أمام الجماهير العربية -والشعب العربي السعودي من هذه الجماهير- في طليعة الركب العربي الثائر المتحرر؟

أعتقد غير مسرف في تفاؤلي، أن هذا الظن من جانبهم وهم كبير.. لأن وسائل الإعلام مهما أسرفت في صنع الأكاذيب فإنها لا تستطيع أن تحول هذه الأكاذيب إلى حقائق يساندها اليقين: قد ينجحون في إثارة الشك، والحقد أيضا أحيانا، في قلوب الساذجين ولكن يتعذر القول إن الشعوب العربية كلها حشد من الساذجين.

فلا خوف من وسائل الإعلام على بلد -أي بلد- يشعر فيه المواطن باستقامة الحاكم وعدالة الحكم. ولا خوف من وسائل الإعلام على بلد لا ظالم فيه ولا مظلوم.

ولا خوف من وسائل الإعلام على بلد لا يعاني من سيئات حكم الإرهاب والتسلط والبطش بلا حساب. ولا خوف من وسائل الإعلام على بلد ينام فيه المواطن غير خائف من مفاجآت الصباح.

وأخيراً لا خوف من وسائل الإعلام على بلد ـ أي بلد ـ ينعم فيه المواطن بحرية الرزق والعمل والحماية والاستقرار.

وإذا كانت وسائل الإعلام لا تهز قواعد الحكم السليم في بلد يقوم فيه الحكم على العدل والحكمة والرخاء.. فإن وسائل الإعلام -مهما بلغت في عتوها ومداها- لا يمكن أن تحمي نظاماً من الحكم يقوم على الظلم والتغرير، والعنت.. والضائقة.. وهدر الكرامة، واغتيال الحقوق.

فالبطون الجائعة لا يشبعها بريق الشعارات. والباحثون عن العمل لا يرضيهم قرع الطبول والأناشيد. والمصابون في رزقهم وحريتهم لا تهزهم أعراس المد الثوري وأكاذيب حكم الشعب بالشعب.

صحيح أن بعض البلاد العربية قد فقد استقراره نتيجة لحماقات بالغة ارتكبها المخدوعون بنداءات بعض وسائل الإعلام، إلا أن التجارب المحزنة لا يمكن أن تسير إلى نهايتها دون أن تخلف وراءها العبرة والدرس العميق.

وقد وضعت الأحداث الرهيبة الدامية التي صنعتها حماقات المد الثوري خلال السنوات العشر الماضية.. وضعت هذه الأحداث أمام المواطن العربي حصيلة مخيفة من الشواهد على المحنة وسوء المصير.

وبعد: أين ذهب ذلك الوزير الثوري؟

لقد غرق في العواصف التي أثارتها في بلاده مواكب رفاقه الأحرار.

غرق.. كما غرق قبله، وكما سيغرق بعده الكثيرون.. وأعترف أنني أحببت ذلك الرجل لأنه قبِل أن يسمع.. وأن يناقش.. وأن يأخذ ويعطي، وأن يسمح في النهاية لبريق من الحق يضيء في رأسه المختلط بالتحامل، والجهل، والكبرياء.. وهذا نموذج نادر فيمن عرفته من الثوار التقدميين.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة