Saturday 14/12/2013 Issue 421 السبت 11 ,صفر 1435 العدد

من يراقب من في الصحافة السعودية؟ (3-4)

نواصل نشر ترجمتنا لفصل بعنوان (من يراقب من؟) من كتاب الصحافي الإنكليزي جون آر. برادلي (تعرية العربية السعودية) (بالغريف ماكميلان للنشر، 2005، 240 ص)، وكنا قد نشرنا في الجزء الأول مقدمة تحتوي على تعريف بالكتاب والمؤلف.

(14) نبيلة محجوب: كاتبة شجاعة

وكدليل على ما سبق، ينبغي تأمل ما حدث للكاتبة السعودية نبيلة محجوب، وهي كاتبة مخضرمة في جريدة المدينة السعودية. لقد تم توقيفها عن الكتابة لأكثر من شهر في عام 2004، والسبب كما علمت من تقرير للصحافية السعودية الموهوبة مها عقيل: إن نبيلة كتبت عموداً ينتقد بصورة رمزية ومبهمة وجود فساد في مؤسسة مالية سعودية كبرى لم تسمها، وانتقدت مديرها العام من دون ذكر لاسمه. ولكن هذا المدير العام عرف نفسه بالطبع، واتصل فوراً بالجريدة، وهدد بسحب صفقة الإعلانات لمؤسسته القوية إذا لم تعاقب نبيلة محجوب. وقام رئيس التحرير المذعور بإبلاغ المحجوب عبر السكرتير، بأنه تم توقيف مقالاتها حتى إشعار آخر!

(15) سطوة الإعلانات

وفي أي يوم طبيعي، تكون 30 في المئة من عدد الصفحات في أي جريدة ناطقة بالإنكليزية في الخليج محشوة بأخبار وإعلانات الشركات الكبرى. بل وخرجت نكتة عن احتمال إعادة تسمية إحدى الجرائد الخليجية إلى (إل. جي. نيوز LG NEWS ) علي سبيل المثال بسبب كثرة إعلانات تلك الشركة الكورية العملاقة.

(16) صحافيون... ولكن!!

معظم السعوديين الذين حاولوا مؤخراً الحصول على عمل في عرب نيوز في جدة، كانوا من ضحايا 11 أيلول/سبتمبر، حيث عادوا من الولايات المتحدة وشعروا بالحيرة والتعاسة من طريقة الحياة في السعودية كما يشعر أي أجنبي، بل في الحقيقة أكثر لأنه من الواجب عليهم الالتزام بالتقاليد التي تخلوا عنها في أمريكا. لقد كانوا عموماً غير قادرين مهنياً على فعل أي شيء باستثناء زيارة غرفة التجارة والصناعة للحصول على أخبار سخيفة جاهزة أو عمل لقاءات تافهة مع قراصنة الـ (سي دي) و الـ(دي في دي) !! ولذلك، كان من النادر جداً أن تحتوي مقالاتهم على أي فائدة أو إثارة، ولهذا كانوا يأتون ثم يغادرون بطريقة سريعة ومتتابعة. ولكن هناك استثناءات ممتازة مثل عصام الغالب الذي كان أول صحافي سعودي يدخل بغداد المدمرة وحصل على مجد يستحقه بجدارة مع الـ سي. إن. إن (CNN)، وهناك أيضاً سعيد حيدر مدير مكتب الدمام التي كانت مقالاته القوية عن وضع العمال في السعودية هي التي صنعت – جزئياً - الشهرة (الليبرالية) لـ عرب نيوز.

(17) لماذا يعاني الصحافيون السعوديون من البارانويا؟

الرقابة الحقيقية في السعودية لا تبدأ من قبل كبار المسؤولين في الحكومة، بل للأسف تبدأ من الصحافيين وكتاب الأعمدة ومحرري صفحات الرأي أنفسهم، الذين يقضي كل منهم وقتاً معتبراً يفكر في أي شبهة معارضة محتملة من رئيسه المباشر بطريقة متسلسلة حتى قمة الهرم أي حتى رئيس التحرير الذي يقضي بدوره وقتاً معتبراً في التنبؤ والتخمين (Second Guessing) لرد فعل أو رغبة وزارة الإعلام وقيام الوزارة نفسها بتخمين رد فعل ورغبة كبار المسؤولين الذين قد يفضلون اللون الأبيض اليوم، ولكن في اليوم التالي يفضلون اللون الأسود! إنها حالة (لا نظام) رقابي متقنة تشكلت بصورة فوضوية غير مقصودة وخلقت بيئة مناسبة تجعل حتى أفضل وأمهر الصحافيين والكتاب يعيشون حالة بارانويا شديدة (أي الشعور بالارتياب والشك والقلق المرضي)، يتم تبريرها عقلانياً بعدم وجود إرشادات وقوانين واضحة يمكن اتباعها، وهذه طريقة فعالة للرقابة من خلال حالة (اللانظام والغموض وعدم اليقين!) وبهذه الطريقة يحصر كبار المسؤولين اجتماعاتهم مع رؤساء التحرير في جلسات استثنائية نادرة وغير دورية للحديث عن مقالة نقدية قوية نجحت في الظهور والنشر بالرغم من حالة الغموض الرقابية المحيرة هذه! ونظير الالتزام بتلك المعايير الغامضة وتقليل مهمة وزارة الإعلام في الرقابة عبر ضمان عدم نشر أي مواضيع نقدية محرجة، يحصل بعض رؤساء التحرير المتملقين على مرتبات هائلة، وحضور متميز في الإعلام الغربي ودعوات لمرافقة كبار المسؤولين في الزيارات الخارجية التي يكتبون بعدها ثلاث جمل من المديح والتملق ويعقبها نسخة موحدة من التقرير لجميع الصحف.

الأوامر المباشرة نادراً ما تأتي من القمة عن طريق مكالمة هاتفية من مسؤول كبير في وزارة الإعلام إلى جميع رؤساء التحرير الذين يمكن أن يجدوا أنفسهم من دون عمل في اليوم التالي إذا لم يلتزموا. وعلى سبيل المثال، ففي الليلة التي سبقت الذكرى الأولى لأحداث 11 سبتمبر الإرهابية على سبيل المثال، طُلب من رؤساء التحرير عدم نشر أي مقالة يوجد فيها رائحة أي تمجيد ولو غير مباشر لتلك الأحداث. وعندما ظهر خبر رائع ومدهش لوكالة الأنباء السعودية نسب فيه إلى ولي العهد (خادم الحرمين حالياً) مقولة حكيمة ورائعة وفعّالة وهي أن (جورج دبليو بوش ينام مبكراً قبل مشاهدة نشرة الأخبار في التلفزيون ولذلك يجب عدم نقده بقسوة لجهله بمعاناة الفلسطينيين وأي شيء آخر يحدث في العالم!)، ثم تم توزيعها لتنشر في الصحافة السعودية فقط بعدما ظهر مفعول ناجح ورائع وقوي لها في الصحافة الغربية.

(18) تأثير تكنولوجيا الاتصالات الإيجابي على الإعلام السعودي

إذا كان السعوديون في الماضي لا يملكون سوى التهام المعلومات التي توضع في أفواههم، فإن 80 في المئة من السعوديين لديهم الآن صحون لاقطة في منازلهم و30 في المئة من السعوديين يستعملون النت والأرقام قابلة للزيادة كل يوم . وبينما يوجد عدد كبير من الفضائيات في الخارج مثل قناة (العربية)، التي تتمتع بالحصول السريع والحصري مثل (شبح) على أخبار الهجمات الإرهابية، فإن معظم تلك الفضائيات باستثناء قناة (الجزيرة) القطرية يملكها سعوديون! ولكن مع ظهور التكنولوجيا الحديثة التي أثبتت أنها عنصر مؤثر في الصراع بين حرية التعبير والرقابة بل وهناك من يجادل بحق أن الصحف خسرت السباق بسبب بسيط جداً وهو انتشار الرسائل النصية (SMS) عبر الهواتف النقالة التي تنشر أخبار وإشاعات مهمة، وكذلك بسبب وجود الهواتف المحمولة، وأيضا بسبب توافر مواقع النت الإخبارية.

(19) تأثير زيادة الوعي في المجتمع على الصحافة

لكن بكل تأكيد الصحافة السعودية تطورت كثيراً عن تلك الأيام التي كان من الممكن فيها سجن رئيس التحرير لأسابيع بسبب خطأ غير متعمد مثل سماح محرر صفحة ما – سهوا - بظهور رسم كاريكاتوري قد يفسر بكونه مهين للذات الإلهية. ولكن هذا التطور نتج منه فقط الحصول على الحد الأدنى من ثقافة النقد الجاد. وحالياً عندما ينشر أي موضوع نقدي مهم، فإن هذا لا يعكس شجاعة من رئيس التحرير أو وجود حرية تعبير بل على الأغلب ينتج من الضغوط الشديدة غير المباشرة الناتجة من تأثير زيادة مستوى الوعي في المجتمع على الكُتاب أنفسهم ليكتبوا مواضيع جادة تحترم عقول القراء الذين صاروا يحصلون على الحقيقة من مصادر أخرى غير صحافتهم! ولهذا يحدث مثل هذا التطور النوعي رغماً عن أنف الجميع. وإذا أصبحت الجرائد السعودية في يوم ما تستحق القراءة فإن هذا ناتج من قوة اجتماعية عولمية عاتية تجتاح البلد وليس بسبب قيام رؤساء التحرير بأي عمل إيجابي. وليس هناك تطور أو انتعاش كبير في وسائل الإعلام السعودية الأخرى.

(20) مأساة الروائيين في السعودية

الحالة المرعبة لمناهج التعليم وخاصة العدوانية التامة للفنون والآداب نتج منها عدم وجود كتب ثقافية حديثة تستحق القراءة باستثناء الكتب الدينية أو المقررات الجامعية.

اثنتان من أفضل الروايات مبيعاً على موقع (النيل والفرات) الإلكتروني هما لمؤلفين من السعودية. ولكن «مدن الملح» للكاتب الراحل عبد الرحمن منيف، ورواية «العصفورية» لغازي القصبي وزير المياه والكهرباء ممنوعتان في السعودية. منع هذين الكتابين وكذلك منع كتب سعودية أخرى لروائيين مهمين يمثلون مجموعة صغيرة من المبدعين الطليعيين الذين يكتبون عن البيئة السعودية بتفاصيل واقعية! يقول الباحث يوسف الديني: (من المذهل أن العربية السعودية أنتجت مجموعة من أهم الكتاب في الوطن العربي، بالرغم من عدم وجود مساندة مجتمعية وحكومية لهم ورغم البيئة الثقافية غير الصحية التي يعيشون فيها).

(21) بروز روائيين رغم كبت المجتمع المحافظ

النجاح الكبير للروائيين السعوديين في الخارج يسلط الضوء على التوتر الموجود في المملكة بين الأيديولوجية المهيمنة ومبادئ حرية التعبير. كما إنها توضح أيضاً الانقسام المعتاد والفجوة بين ما هو مسموح رسمياً وما يتم قراءته ومطالعته بكثرة خلف الأبواب المغلقة. هذا الانقسام يعتبر السبب المحتمل لفشل العربية السعودية في تكوين مجتمع متماسك ثقافياً. وهذا لا يعني أن الناس يعيشون في الظلام ولا يملكون آراء بل على العكس تماماً.

(22) تجربة الروائي عبده خال

الروائي عبده الخال، الذي ألف خمس روايات قال في حوارات صحافية منشورة معه، إن رواياته لا تباع في السعودية لأنها تناقش الثالوت المحرم: الجنس، السياسة، والدين. وأضاف محتجاً: لكن هذا الثالوث هو الذي يشكل جوهر حياة الناس! في الغالب تلك الروايات منعت بسبب هيمنة الأيديولوجية المحلية. ولكن، بالرغم من ذلك، لم يوقف هذا المنع والتحفظ بعض الروائيين والروائيات السعوديين.

خال مدرس في المرحلة الابتدائية وينشر رواياته في خارج السعودية كباقي الكتاب السعوديين، وبحسب تقرير صحافي منشور يناقش معاناة الروائيين السعوديين، فإن خال قال إنه دفع 3.000 دولار عام 1995، لينشر 1.000 نسخة فقط من روايته الأولى، وأحضر معه 12 نسخة فحسب ليوزعها على أصدقائه وبعض النقاد. وذكر خال هذه الحقائق بصراحة مذهلة في عدة حوارات صحافية منشورة معه، ونشر مؤخراً أنه وقع عقداً مع مؤسسة نشر عربية في ألمانيا لنشر وتوزيع كتبه على المكاتب التجارية والإلكترونية. الروايات السعودية تكتسب اعترافاً وتقديراً خارج السعودية. وبالرغم من منعها داخلياً، فإنه يتم تداولها بين الناس دائماً في السعودية. وعندما يعود السياح السعوديون من مصر ولبنان، يحضرون معهم أكبر كمية ممكنة من الكتب الحداثية. وهناك كتب أخرى يتم تصويرها وتوزيعها بطريقة سرية وغير رسمية.

(23) الروائي محمود التراوري يحلل مشكلة الروائيين في السعودية

محمود التراوري، وهو كاتب ممتاز ومحرر أدبي مرموق في جريدة الوطن، فاز بجائزة الشارقة للإبداع عن روايته الرائعة «ميمونة» وهي تروي قصة عدة أجيال من عائلة أفريقية هاجروا للسعودية للعمل، وتشرح العنصرية التي تعرضوا لها ودور التجار المحليين في تجارة العبيد. جائزة الشارقة تأسست عام 1998، عن طريق إمارة الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة لتشجيع الأدباء والفنانين في المنطقة وقامت بطبع 500 نسخة من رواية ميمونة . تراوري صرح للصحافة أنه نشر بعض فصول الرواية في مواقع الكترونية (ربما لعدم فسحها في البداية) وقدم نسخ لبعض أصدقائه ليكتبوا عنها مراجعات في الصحف المحلية. وبينما تعتبر مراجعات الكتب في الصحافة السعودية غير مهنية بل رديئة تماماً، إلا أنها مع هذا، تساهم في زيادة الوعي بأن اللغة يمكن استخدامها بفاعلية ولغرض جاد بخلاف كتابة قصائد شعرية تمجيدية واحتفالية وتملقية. وقدم تراوري أيضاً نسخة من الرواية لنادي جدة الأدبي حيث تم تصويرها وتوزيعها على 20 عضواً لتناقش في حلقة القراءة النقدية في النادي عام 2003. ولكن عندما استلم تراوري عشرات المكالمات والإيميلات من الناس يطالبون بنسخ من روايته، لم يكن بقي لديه أي نسخة وكان منزعجاً لأنه أدرك أن الكاتب في السعودية يجب أن يكون مؤلفاً وناشراً وموزعاً في الوقت نفسه.

** ** **

الحلقة الرابعة والأخيرة الأسبوع القادم. قريبا في 4 حلقات: (الشريعة في السودان، التطبيق والنتائج: 1983-1989).

د. حمد العيسى - المغرب Hamad.aleisa@gmail.com